الرئيسية / الرئيسية / سقط نظام البعث في سوريا.. فكيف تسقط العقوبات؟

سقط نظام البعث في سوريا.. فكيف تسقط العقوبات؟

ستراتيجيكس- حسن إسميك

الشرق اليوم– ليست التركة التي خلفها سقوط نظام البعث في سوريا بالأمر الهين أو البسيط، في مختلف مفاصل الدولة وقطاعاتها، وأظن أنها تتعقد وتزداد ثقلاً وحجماً في المجال الاقتصادي، فكل رقم أو مؤشر في الاقتصاد السوري وكل البيانات والإحصاءات تثير القلق وتعبر عن انهيار شبه كامل في المنظومة الاقتصادية السورية، هذا إذا كانت موجودة بالأساس، أو يصح في تسميتها استخدام مصطلح “منظومة”! تعرضت البنى التحتية في سوريا للدمار والتخريب والنهب، وكانت القطاعات الأساسية هي أكبر الخاسرين، بداية من القطاع الزراعي الذي تأثر بشكل كبير بسبب النزوح وتدمير الأراضي الزراعية وارتفاع تكاليف الإنتاج، مروراً بالقطاع الصناعي حيث تدمرت مصانع كثيرة أو توقفت عن العمل بسبب نقص الطاقة والمواد الخام والعمالة، وصولاً إلى قطاع الخدمات، الذي تأثر بشكل كبير بسبب تدهور الأمن والاستقرار وفرار المستثمرين.

تشير التقديرات إلى أن خسائر الاقتصاد السوري تجاوزت 650 مليار دولار. بالإضافة إلى نزوح الملايين من السوريين في الداخل أو مغادرتهم البلاد، فخسرت الدولة كماً كبيراً من القوى العاملة المؤهلة وزادت أعباء الإنتاج على الباقين، ويعيش أكثر من 14 مليون سوري اليوم تحت خط الفقر، يعاني جُلُّهم من نقص حاد في الأمن الغذائي. وارتفعت معدلات البطالة بشكل كبير، واستشرت بالمقابل “البطالة المقنعة” في المؤسسات الحكومية، ما زاد من الأعباء الاقتصادية على الأسر. كما تراجع سعر الليرة السورية بشكل كبير، حيث وصل سعر صرف الدولار إلى 15 ألف ليرة، في حين أن متوسط الأجور لا يتجاوز 17 دولاراً شهرياً، فارتفعت كُلف الاستيراد وتدهورت القدرة الشرائية للمواطنين وانعدمت قدرة معظمهم على تلبية احتياجاتهم، حتى الأساسية منها،  وبالطبع لا ننسى العقوبات الاقتصادية التي تفرضها العديد من الدول على سوريا، والتي أدت -وما تزال- إلى تقييد التجارة الخارجية وتجميد الأصول السورية في الخارج، وتمنع الاستثمارات والمساعدات اللازمة والضرورية لإعادة إعمار البلاد، استخدمت في مستهل حديثي تعبير “نظام البعث”، لا لأني أبتعد عن الأسماء أو أتوانى عن تسمية شخص بعينه، بل على العكس من ذلك تماماً فما أريد أن أقوله هنا أن الدمار الذي لحق الاقتصاد السوري لا يتحمل مسؤوليته بشار الأسد وحده، ولا الحرب الأخيرة التي دارت في البلاد وحدها، بل هو قديم بدأت إرهاصاته الأولى قبل عقود، منذ أن سيطر البعث بعقليته الاشتراكية التي أدت، عند اقترانها بالفساد والمحسوبية، وبالحروب والعقوبات، إلى نتائج كارثية يتحملها السوريون ويدفعون وحدهم ثمنها.

لقد ترك نظام البعث بصمة عميقة على الاقتصاد السوري منذ أن قام بتأميم العديد من الصناعات والقطاعات الحيوية، وقلل من دور القطاع الخاص وعرقل روح المبادرة والابتكار. كما أدى تطبيق نظام التخطيط المركزي للاقتصاد، وقيام الدولة وحدها بتحديد الأسعار والإنتاج والتوزيع، إلى بيروقراطية كبيرة وفساد هائل، وأوجد نظام محسوبية وزبانية تم فيه تفضيل الأقارب والأصدقاء في الحصول على الوظائف والمناقصات، فانسحبت الكفاءات وارتفعت معدلات البطالة، وصار الفساد هو السمة الأبرز والأوضح في جميع المستويات الحكومية، بكل ما يعنيه من هدر للموارد وتقويض للثقة في المؤسسات الحكومية. وجاءت الحرب بعد ذلك لتوجه الضربة القاضية لهذا الاقتصاد الهش والمتداعي أصلاً.

هل من مخرج؟

يمكن القول إن العائق الأكبر في وجه إعادة بناء الاقتصاد السوري قد زال، وأعني هنا نظام البعث بكل شخوصه التي كانت تنشط في العلن وفي الظل. لكن هذا لا يعني في أي حال من الأحوال أن المهمة سهلة والطريق ممهد ويسير، فما زال على السلطات الجديدة مواجهة هذه الأزمة الاقتصادية العميقة والمتجذرة، والشروع في عملية إعادة الإعمار والتي تتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية والخدمات الأساسية، وتحتاج بالتأكيد إلى دعم ومساعدات دولية، تتجاوز قدرة دولة واحدة أو اثنتين، وتقتضي إجماعاً دولياً تنشأ عنه مشاركة واسعة في دعم سوريا وإعادة إعمارها اقتصادياً أولاً، ومن ثم في كل المناحي التي ترتبط حكماً بالاقتصاد وتقوم عليه، وعليه، يظل رفع العقوبات عن سوريا هو الخطوة الأكثر أهمية في إعادة بناء الاقتصاد السوري المدمر، والذي سيكون بدوره قاعدة لإرساء السلم الأهلي والعيش المشترك، أو لزعزعتهما! تصلني من بعض دوائر صنع القرار العربية والغربية وجهات نظر متداولة تقول بأن المعطيات الحالية تشير إلى أن “هيئة تحرير الشام” ستفضل الموالين لها، وهناك مخاوف كبيرة من أن تمنحهم السيطرة على الأنشطة الاقتصادية إلى جانب تلك السياسية والاجتماعية، فهذا يهدد بإعادة إنشاء نسخة “إسلاموية” من الحكم الاقتصادي للبعث وآل الأسد، والذي اتسم لفترة طويلة بالفساد والمحسوبية والتعامل مع البلاد وكأنها “مزرعة شخصية”. وهذا سينعكس بالضرورة على موضوع رفع العقوبات التي تؤثر بالدرجة الأولى على الشعب السوري.

حالياً، كل تصريح أو موقف أو تصرف يوحي بأن القيادة الجديدة في سوريا غير مكترثة برأي الغرب أو بدوره في مستقبل سوريا، هي دلائل على قصر نظر وسوء تقدير ورؤيا أحادية متعنته لا تختلف كثيراً عن أسلوب القيادة السابقة الذي أوصل البلاد إلى الهاوية، وإلى الانعزال التام عن محيطها العربي أولاً والدولي ثانياً، وإلى الارتهان التام لإرادة طهران، التي لم تكن مهتمة لشيء إلا لمصالحها حتى لو كانت على حساب لقمة عيش السوريين، لدى السوريين تاريخ مؤلم مع التصرفات التي تتجاهل الغرب وقوته، خاصة في المجال الاقتصادي، وأي كلام في هذا السياق يعيدهم إلى تصريحات قديمة من قبيل “التوجه شرقاً”، و”محو أوروبا عن الخارطة”، و”تشبيك البحار الخمسة” وغيرها من الشعارات الفارغة التي لم تؤدِّ إلا إلى إفقار السوريين وتجويعهم وتدهور أحوالهم، كذلك وضمن سياق عدم تكرار النهج السابق، على مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية، شدد نظام الأسد على نهج “الفائز يأخذ كل شيء”، لذا يجب أن يرفع السيد أحمد الشرع وهيئته عن أنفسهم شبهة تبنيهم هذا الأسلوب أو هذه العقلية. وإلا فإن الحاكم الجديد في دمشق سوف يواجه قريباً نفس التحديات التي أدت إلى انهيار النظام السابق، في الثلاثين من ديسمبر/كانون الأول، عينت الحكومة المؤقتة في البلاد ميساء صابرين رئيسة للبنك المركزي. وباعتبارها نائبة سابقة لحاكم البنك وأول امرأة يتم تعيينها في هذا المنصب على الإطلاق، أرسل ترشيحها رسالتين مطمئنتين: الأولى أن حكام سوريا الجدد يدركون الحاجة إلى التكنوقراط، حتى أولئك الذين كانوا جزءاً من نظام بشار الأسد؛ والثانية أنهم لن يستبعدوا النساء من الحياة العامة.

المزيد من رسائل التطمين، قولاً وفعلاً والموجهة إلى الداخل والخارج، أمر ضروري جداً اليوم وعلى مختلف الصعد. ففي حين يبدو واضحاً من التحركات الدبلوماسية -العربية والدولية- أن هناك تحركاً جاداً نحو النظر في تخفيف العقوبات، إلا أن التغييرات الفعلية ستعتمد بالدرجة الأولى على الإجراءات التي ستتخذها القيادة السورية الجديدة فيما يتصل بمشاركة في الحكم والعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان والحريات العامة. وسيظل المجتمع الدولي حذراً، ولن يأتي أي رفع للعقوبات إلا مصحوباً بإصلاحات كبيرة داخل سوريا لضمان السلام والاستقرار الدائمين.

سوريا تتسع للجميع

كل ما قلته سابقاً لا يعني أن إعادة إعمار سوريا أو الاستثمار في أي من قطاعاتها هو من باب المساعدة أو المنة أو الهبة، بل هو فرصة اقتصادية حقيقة ومصدر متوقع لأرباح كبيرة. فآفاق الاستثمار في سوريا كثيرة ومتنوعة، ولا تقف مثلاً عند القطاعات التقليدية كالنفط والغاز أو الزراعة وما إلى ذلك -على أهميتها، فالقطاع الخدمي في سوريا مثلاً يمكن أن يكون مصدر ربح كبير جداً، ففي ذلك البلد قدرات هائلة وشباب طموح أثقل الاستبداد كاهله وهو مستعد اليوم، بعد أن تحررت أجنحته، للتحليق عالياً وبعيداً في سماء العلم والفن والإبداع والابتكار. ناهيك عن المهاجرين السوريين -وما أكثرهم- الذين اكتسبوا خبرات ومعارف متنوعة ومختلفة وبإمكانهم في حال توافرت الظروف المناسبة توظيف كل ما تعلموه في خدمة بلادهم وبنائها وتطويرها، سوريا بلد عريق، عمرها بعمر التاريخ نفسه، تمتلك ثقافة غنية شاملة، وشعباً مثابراً أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه قادر على إحداث التغيير مهما بدا صعباً أو ربما مستحيلاً، هذا البلد -وهذا الشعب- إذا ما وجد من يستثمر طاقاته بالشكل الصحيح، ومن خلال قوانين ناظمة حداثية، وأطر تشريعية واستراتيجيات منفتحة، يمكن أن يتحول من حالة الانهيار والتشظي، إلى فرصة اقتصادية كبرى للسوريين أنفسهم وللمستثمرين العرب والأجانب.

وفي الختام لا بد من القول إن سقوط نظام الأسد قد أحدث تحولاً زلزالياً في ديناميات الحكم في سوريا، وما زالت الإدارة الجديدة، بقيادة هيئة تحرير الشام، تحاول إيجاد توازن دقيق بين أصولها الإيديولوجية والضرورات البراغماتية للحكم. نعم ما زالت الروايات إلى اليوم تتضارب حول الكيفية التي سقط فيها النظام بهذه السرعة وبهذا الشكل المدوي، لكن ورغم قلة ما يمكن تأكيده حول ما جرى، يظل هناك مؤكد واحد لا خلاف عليه وهو أن العامل الرئيس في سقوط النظام كان التدهور الاقتصادي المستمر الذي أدى إلى تدهور كافة جوانب الحياة السورية على مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية. لذلك لا بد أن يولى الاقتصاد أهمية كبرى، لأنه الأساس الذي ستبنى عليه الدولة بكل مفاصلها، وسيكون هو محدد نجاح أي سلطة أو فشلها، يظهر السوريون اليوم بكل انتماءاتهم وأطيافهم استعداداً غير مسبوق لتولي زمام أمور بلادهم، والمجتمع الذي عاش تحت وطأة الاستبداد لنصف قرن مستعدٌّ للتغلب على مخاوفه السابقة من حكامه. بالمقابل على القيادة المؤقتة، أن تؤدي دورها الأساسي في دفع كل السوريين إلى العمل معاً، بشكل متعمد، بعيداً عن صيغ “منتصر مقابل مهزوم”، أو “أقلية مقابل أكثرية” أو غيرها من الصيغ الهدامة. فإجراءات كهذه ستكون خطوة أولى على طريق طويل لبناء سوريا حرة ومستقرة ومزدهرة، ولتصبح نموذجاً ملهماً لكل دولة تعاني الصراعات والحروب الأهلية في أي مكان في العالم.

شاهد أيضاً

الجولاني: قائمة بأسماء المتورطين في تعذيب الشعب السوري ستصدر قريبًا

الشرق اليوم– أعلن زعيم “هيئة تحرير الشام”، أحمد الشرع المعروف بـ”أبو محمد الجولاني”، الذي يقود …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *