مختار الدبابي- العربية
الشرق اليوم– ستكون نتائج الانتخابات الأميركية مهمة لمناطق عدة في العالم، وعلى رأسها الشرق الأوسط بسبب الحرب في غزة ولبنان. لكن، تبدو دول شمال أفريقيا الأقل اهتماما بهذه الانتخابات بالرغم من وجود الولايات المتحدة وتأثيرها في تفاصيل كثيرة بهاّ، غياب هذا الاهتمام مفهوم، وهو يعود بالأساس إلى ارتباط دول شمال أفريقيا بأوروبا، وفي ذلك تشابكات كثيرة على رأسها الشراكات الاقتصادية وموضوع الهجرة والأمن. وحّد تركيز الدول المغاربية على الشريك التقليدي من فرصها في الاستفادة من تعدد الشراكات ومزاياها خاصة مع الولايات المتحدة، التي يتم التعامل معها بحذر، وفي مجال شبه محدود، وهو الملفات الأمنية.
لكن الولايات المتحدة ليست شريكا أمنيا ولا دفاعيا فقط، فهي يمكن أن تتحول إلى شريك أكبر في ملفات أخرى، وخاصة الشراكة الاقتصادية في وقت تعاني فيه بعض البلدان من وضع خاص مثل تونس. طبعا، لا يعني هذا أن يكون التقارب من جانب واحد، ولكن يمكن بناء الثقة بين الطرفين للاستفادة من مزايا الشراكة مع الولايات المتحدة صاحبة الاقتصاد الأول في العالم.
وما يدعم الانفتاح على شراكة أوسع وأكثر مردودية مع الولايات المتحدة، أن علاقة دول شمال أفريقيا مع أوروبا تعيش أزمات كثيرة بسبب التغييرات التي يعيشها العالم. اقتصاديات أوروبية لم تعد قادرة على استقطاب عشرات الآلاف من الأيدي العاملة من الدول المغاربية، وهو ما يكسر انتظارات الأجيال الجديدة، التي تريد الهروب من وضع معيشي صعب باتجاه أوروبا، كما أن الشريك الاقتصادي التقليدي لم تعد ظروفه تسمح بالاستثمار السخي في شمال أفريقيا، والدولة الأوروبية المؤثرة تتقوى على نفسها لتقديم مساعدات لجيرانها في شمال أفريقيا من أجل تأمين مواد حيوية أو مساعدتهم على تنفيذ مشاريع البنية التحتية والخدمات أو ضمان دفع الرواتب.
صارت علاقة شمال أفريقيا بأوروبا أقرب إلى إدارة أزمات منها إلى شراكات متكافئة ودائمة، ما يجعل من الضروري على الدول المغاربية أن تتبنى خيار تنويع الشركاء والشراكات، وألا تضع بيضها في سلة واحدة. تحافظ على شراكاتها مع أوروبا بحدها الأدنى القائم حاليا ثم تنفتح على الولايات المتحدة وعلى الصين وروسيا، لا يمكن الحديث عن إبدال شريك بشريك كما توحي بذلك ردود الفعل في تونس على محدودية الدعم الأوروبي بالتلويح بالاتجاه شرقا نحو روسيا والصين. أو كما فكرت الجزائر بالاتجاه نحو مجموعة بريكس كرد فعل على مواقف سياسية غربية لم تكن ملائمة لخياراتها.
يخطئ من يعتقد بأن الشرق سيكون ملاذا للغاضبين من دعم غربي متراجع أو مشروط، فللشرق شروطه هو أيضا، كما أن ما يقوده هي المصالح، وهو ما ينبغي أن تدركه الدول المغاربية بالبحث عن شراكات متعددة تراعي مصالحها وحاجياتها.
لكن هل أن الشراكة مع الولايات المتحدة متاحة ومفتوحة لمن يطلبها ودون عقبات. بالتأكيد، فإن كل شراكة تحتاج إلى مفاوضات ونقاشات وعرض وطلب، ما يجعل من المهم بالنسبة إلى الدول المنطقة أن تعد خطة علاقات إنْ بشكل جماعي أو فردي، العقدة الأولى أمام خطة التحرك الجماعي هو التناقضات الداخلية، فباستثناء المغرب، الذي يمتلك مقاربته الخاصة مع واشنطن ضمن سياق اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء في ولاية دونالد ترامب، فإن بقية البلدان تقف نظرتها إلى الأميركيين عند الشراكة الأمنية وعلاقات اقتصادية محدودة ولا ترتبط بأفق إستراتيجي.
الولايات المتحدة لديها دور في الوصول إلى شراكة محدودة مع دول شمال أفريقية، حيث كانت تنظر إلى المنطقة على أنها هامشية أو أنها كانت تستبطن تبعيتها لأوروبا كفضاء خلفي، لكن الآن الدنيا تغيرت وصار شمال أفريقيا محورا في معادلة الأمن الدولي، وهو ما يفسر تمركز الولايات المتحدة في أغلب هذه الدولة ووضع اتفاقيات أمنية والتنسيق ضد الإرهاب، كما أن واشنطن لن تترك مجالا حيويا مثل شمال أفريقيا تتصارع عليه القوى الكبرى في ضوء تمركز روسيا على وجه الخصوص في المنطقة سواء في مالي أو ليبيا، وفي ظل ميول تونسية للاتجاه شرقا بسبب محدودية الدعم الغربي بما في ذلك من الولايات المتحدة.
واتسعت قائمة المنافسين لواشنطن في المنطقة من روسيا إلى الصين، التي تبحث عن ثغرات التراجع الأوروبي – الأميركي للتمركز بالمنطقة، إلى تركيا وإيران، دون نسيان الخطر الإرهابي الماثل في منطقة الساحل على وجه الخصوص، حيث تستفيد الجماعات المتشددة في استعادة المبادرة ميدانيا من انسحاب فرنسا وظهور أنظمة مناوئة للغرب وفقدان الدعم العسكري والاستخباري الفعال عدا دعم محدود من فاغنر الروسية.
وبات الأميركيون يفكرون في شمال أفريقيا كنقطة ارتكاز لقوات أفريكوم وسط نقاشات حول مقرها هل يكون في تونس أم ليبيا.
لكن السؤال هو كيف يمكن أن تتدارك واشنطن إستراتيجيتها في شمال أفريقيا والانتقال بها من الاعتماد عليها كنقطة تحرك ضد الإرهاب إلى شراكة فعلية تساعد على كسب ثقة دول المنطقة، هل الأمر متروك فقط للشركات الأميركية التي تريد الاستثمار في أسواق أكبر بمقاييس الربح وليس بمقاييس تثبيت الشراكات الأميركية متعددة الأوجه، وبالأخص الشراكات الأمنية والدفاعية.
وعلى سبيل المثال، منحت الولايات المتحدة في 2015 تونس صفة الشريك الأساسي من خارج حلف شمال الأطلسي ويمكّنها هذا الامتياز من الحصول على تدريبات عسكرية وقروض وتمويلات لشراء معدات للبحث والتطوير وشحنات دفاعية، فهل يمكن توسيع دائرة الشريك الأساسي من الجانب الدفاعي إلى الجانب الاستثماري، في وقت يعرف فيه الأميركيون أن تونس تحتاج إلى دعم اقتصادي وتمويلات ومشاريع عاجلة من أجل مساعدتها على النهوض بالتفاصيل التي يطلبها دور الشريك، وهناك مؤاخذات في تونس على الولايات المتحدة بشأن عدم دعم مساعي تونس للحصول على تمويلات كافية من صندوق النقد أو من خارجه بسبب تقييمات سياسية تتعارض مع الشراكة الأمنية، ومنها موضوع حقوق الإنسان، الذي تضعه واشنطن أولوية فوق مصالحها المباشرة مع تونس، ويتعلق الخلاف بين تونس والولايات المتحدة أساسا بملف حقوق الإنسان. ويرفض الرئيس التونسي قيس سعيد التدخل -من أي جهة خارجية، بما في ذلك واشنطن- في الشؤون الداخلية لبلاده لفائدة أشخاص أو جمعيات أو أحزاب أو تحت أيّ مسوغ، بما في ذلك مراقبة الانتخابات.
الولايات المتحدة ليست شريكا أمنيا ولا دفاعيا فقط، فهي يمكن أن تتحول إلى شريك أكبر في ملفات أخرى، وخاصة الشراكة الاقتصادية في وقت تعاني فيه بعض البلدان من وضع خاص مثل تونس، ورغم أن واشنطن لم تصدر انتقادات علنية لتونس بسبب هذا الموقف، إلا أنها لا تفوّت فرصة توجيه رسائل إلى تونس تظهر عدم رضاها عنها، مثل انتقاد تعامل تونس مع المهاجرين غير النظاميين أو رفضها الاستجابة لمطالب صندوق النقد، وسبق أن حذّر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن من “سير الاقتصاد في تونس نحو المجهول، وأن أمامهم (قادة تونس) شيئا يمكنهم القيام به، وهو التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي”.
وفي ليبيا توجه الانتقادات إلى الولايات المتحدة بسبب دورها الذي يقوم على مجاراة الأزمة السياسية المستمرة في البلاد بدل ممارسة ضغوط كبيرة لدفع الفرقاء السياسيين وداعميهم الخارجيين للتوصل إلى حل سياسي شامل ينهي الانقسام، ومن المهم للولايات المتحدة ولحلفائها في شمال أفريقيا أن يكسروا شرنقة معادلة التحالف الدفاعي والأمني لتوسيعه إلى دوائر أخرى، وأن يخففوا من الحذر والاشتراطات المتبادلة سواء ما تعلق بحقوق الإنسان أو بمحاذير تعود في أغلبها إلى الحرب الباردة.