ستراتيجيكس- حسن إسميك
الشرق اليوم– أصبحت الفرصة أمام الدول العربية ماثلة لاستعادة ما فُقد منهم في العقود الماضية، فبالرغم من الظرف الإقليمي الصعب، والمعاناة الإنسانية غير المسبوقة جراء الحرب في قطاع غزة ولبنان، إلا أن هذه الظروف وفرت للأنظمة العربية التي أثّرت إيران في إرادتها وقرارها السياسي والأمني والعسكري وتحكمت في مواردها الاقتصادية، العودة إلى عُمقها العربي والوطني. وما يحدث في لبنان اليوم مثال على ذلك، إذ تمثل هذه الأحداث طريقاً يمكن عبره أن يستعيد البلد المخطوف هويته وتعدديته وتنوعه الاجتماعي والسياسي، وأن تُغلق خنادق الحرب، وأن يرجع واجهة الشرق الحضارية، وتعود بيروت وجهة للمفكرين والمثقفين والفنانين والروائيين، وهذه المُهمة ليست موكلة باللبنانيين فقط، بل أيضاً بالدول العربية التي عليها أن تتبع نهجاً مغايراً لما كان سائداً خلال العقود الماضية.
علينا اليوم كدول عربية أن نساهم في توظيف هذه اللحظة التاريخية، لتفكيك التحالفات والتوازنات التي سادت بين القوى السياسية، وفي إعادة ترتيب المشهد اللبناني من جديد، ليس لأجل المصالح الإقليمية للدول العربية فحسب، بل للحفاظ على مصالح لبنان وأرواح مواطنيه وتعزيز سيادته على أرضه وترسيخ استقراره داخلياً بالدرجة الأولى، هذا أمر بات ممكناً اليوم أكثر من أي وقت مضى، بالرغم من اعتقاد البعض عكس ذلك؛ تجاه بلد لم يعرف الاستقرار منذ أكثر من خمسين عاماً.
ما يحدث في لبنان الآن ومنذ الأسابيع القليلة بدءاً من “تفجيرات البيجر”، أمر لا ينبغي وصفه بغير المسبوق فقط، بل وأيضاً غير متوقع بهذه البساطة وفي هذا التوقيت، إذ ومنذ بدأت إسرائيل حربها على جنوبه وصولاً للضاحية الجنوبية انكشف عمق الاختراق “الفاضح” للقوى المدعومة من إيران، والذي مكّن إسرائيل من الوصول للقادة وتصفيتهم بسرعة وسهولة ما زالت التحليلات السياسية عاجزة عن ملاحقتها وكشف ملابساتها، ناهيك عن تبعاتها! ورغم الغموض الذي يطغى على حقيقة الموقف الإيراني مما حدث، والذي يحتاج لوحده مقالاً منفصلاً وحديثاً مطولاً ليس أوانه الآن، إلا أن طهران قامت بما ينبغي أن تقوم به العواصم العربية قبلها، فأرسلت مبعوثيها، عسكريين وسياسيين، إلى الضاحية الجنوبية، وآخرهم رئيس برلمانها الذي سبقه وزير الخارجية بزيارة موسعة.
لا شك أن إيران تحرص نسبياً على نفوذ أذرعها المسلحة في لبنان ودول أخرى في المنطقة، ويبقى حرصها هذا مشروطاً بمصالحها التكتيكية مهما طال أجله، أما ما تحرص عليه استراتيجياً فهو الحفاظ على “تحالفها” طويل المدى مع المكون الشيعي العربي، والذي كما مكّنها من بناء أذرع عسكرية في السابق، سيمكنها من بناء أذرع جديدة مرة أخرى وتوجيهها في أماكن أخرى.
“تحالف” إيران مع جزء مهم من المكون العربي الشيعي في الظاهر، يعكس في الجوهر تبعيته لها، وليست هذه التبعية وليدة يوم وليلة، بل هي تفاعل معقد بين عوامل عديدة، بدأت وتطورت على امتداد حقب زمنية مختلفة، من جهود التحول التاريخية التي بدأتها السلالة الصفوية سابقاً، وصنعت صورتها اليوم الديناميات السياسية التي أعقبت الثورة الإيرانية.
بالنسبة للصفويين، فقد لعبت سلالتهم، التي حكمت إيران من أوائل القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، دوراً محورياً في ترسيخ المذهب الشيعي الاثني عشري كدين للدولة. نفذ الشاه إسماعيل الأول، مؤسس السلالة، حملة قسرية تهدف إلى تحويل إيران من دولة ذات أغلبية سنية إلى دولة شيعية. لم يكن مبتغى الشاه حينها دينياً فحسب، بل خطوة استراتيجية لخلق هوية وطنية تميز إيران عن جيرانها السنة، وخاصة الإمبراطورية العثمانية. “استورد” إسماعيل علماء الشيعة من مناطق مثل جنوب العراق ولبنان لتثقيف عامة الناس وإضفاء الشرعية على حكمه، وبالتالي دمج المذهب الشيعي في النسيج الثقافي لإيران.
أما بالنسبة للثورة الإيرانية فقد كان العام 1979 بمثابة نقطة تحول مهمة أخرى. ففي عهد الخميني، صوّرت إيران نفسها كزعيمة للمجتمع الشيعي، ليس في البلاد العربية وحدها، بل في جميع أنحاء العالم، فمن خلال الظهور بمظهر المدافع عن حقوق الشيعة، وترويج السرديات حول مظلوميتهم التاريخية ودور إيران في حمايتهم، نجحت الخمينية في تعزيز العلاقة بين الشعور بالانتماء إلى الطائفة والولاء لإيران، وفي تصوير الخلافات الطائفية مع أخوة الدم على أنها صراع وجودي، أضف إلى ذلك تبنَّي خطاب موجه لتقويض شرعية النخب الشيعية العربية المحلية وتقديم النخب الإيرانية كبديل عنها، والترويج للإسلام السياسي بنسخته الشيعية المنافسة للنسخة السنية التي كانت متعثرة أصلاً.
لقد حفز هذا التحول المجتمعات الشيعية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك العراق ولبنان، حيث بدأت في السعي إلى تمثيل سياسي واستقلال أكبر. وقد ألهم النموذج الإيراني للحكم العديد من الشيعة العرب الذين نظروا إلى إيران باعتبارها حامية ضد الأنظمة التي يهيمن عليها السنة.
ساهم المشهد الجيوسياسي أيضاً في التأثير على تحالف الشيعة العرب مع إيران. ففي أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003، اكتسب الشيعة في العراق قوة سياسية، وهو ما كان يُنظر إليه على أنه امتداد للنفوذ الإيراني في المنطقة. وبدأ العديد من الشيعة العرب ينظرون إلى إيران ليس فقط كحليف ديني، ولكن أيضاً كشريك استراتيجي ضد ما روجوا له على أنه “أنظمة سنية قمعية”.
اليوم.. وفي ظل المعطيات السياسية والميدانية الحالية، وتصاعد وتيرة أحداثها، ومع انكشاف أيديولوجيا إيران وسياساتها أمام المكون الشيعي اللبناني، تبدو الفرصة سانحة كي يعيد الشيعة العرب اكتشاف إيران التي لا تتوانى عن استخدام كل من تستطيع، كبيادق في صراعاتها الإقليمية التي أدت وتؤدي إلى دمار كبير وخسارة في الأرواح في دول مثل اليمن، وسوريا، والعراق، ولبنان. كما بات من الممكن بسهولة أيضاً اكتشاف العنصرية العميقة والتمييز الديني داخل السياسات الإيرانية، حيث غالباً ما تأخذ الهوية الفارسية الأسبقية على “التضامن الشيعي”، والأمثلة أكثر من أن تحصى –من الأدب والتعليم والسياسة– تلك التي تُظهر الازدراء الفارسي القديم للعرب، وتكرس عنهم صورة سلبية وفي سياقات ثقافية مختلفة.
أعلم تماماً العلم أن قضية الولاءات، وخاصة حين تكون مبنية على أبعاد دينية مذهبية، هي قضية معقدة تحتاج حلولاً ذات طابع شمولي وطويل الأجل، لكن هذا لا ينبغي أن يقف حائلاً أمام الدول العربية كي تحسن الاستثمار السياسي للحظة الراهنة، وأن يسارع سفراؤها ووزراء خارجيتها لبذل أقصى ما تستطيع الدبلوماسية العربية لمد يد العون للبنان وشعبه بجميع مكوناته، وأولهم شيعته الذين يعانون اليوم أشد المعاناة. ينبغي أيضاً أن يتفق العرب جميعهم على رؤية سياسية واحدة وذات أثر قريب وبعيد في الوقت ذاته، فيتمكنوا من تحقيق نتائج سريعة وملموسة على الأرض من جهة، ويعملوا في الوقت نفسه على معالجة الأسباب الجذرية لهذه المشكلة، مع أهمية التأكيد على البدء بتبني السياسات الاجتماعية والثقافية التي تقوم على الحوار والتسامح وتعزيز الهوية الوطنية، ليس لتطبيق هذه السياسات في لبنان حصراً، بل ولتوسيع التجربة لاحقاً إلى المناطق العربية الأخرى التي تعاني التدخل الخارجي باسم العقيدة أو المذهب.
ولكي تُستكمل جوانب هذه السياسات كلها ينبغي تعزيز كافة أشكال الدعم المعنوي والعملي، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، والمساعدة بسد حاجات المواطنين اللبنانيين، وأيضاً بجميع مكوناتهم وفصائلهم واتجاهاتهم، في ظل ما يواجهون اليوم من حرب لم يكن بيدهم تجنبها حين اندلعت، وليس بمقدورهم مواجهتها حالياً، وأياً كانت نتائج هذه الحرب فلبنان الشعب والدولة هو الخاسر فيها على كل الوجوه، إلا إذا استطعنا جميعاً تحويلها إلى حدث تاريخي يكون لبنان ما بعده ليس كما قبله، حينها سيكون لكل تضحية عزاؤها عند اللبنانيين في ضمان مستقبل آمن ودولة وطنية جامعة.
ولأن السياسة، تميل في الممارسة إلى التقليد والاتباع والالتزام بالسياسات العامة والخطط المسبقة، ينبغي إذن على الدول العربية أن تنسق جهدها في الأقنية والطرائق السياسية المعروفة، فتسعى إلى تركيز جهودها ضمن تحالف عربي واضح وصريح، ومدعوم من الدول الفاعلة وذات التأثير السياسي الملموس، وأولها دول الخليج ومصر والأردن، وتحت غطاء جامعة الدول العربية وشرعية دورها في حدود دول أعضائها. وسيكون من الصوابية السياسية أن يستفيد هذا التحالف من العلاقة الطيبة التي تربطه بالولايات المتحدة والغرب، ليدعموا كل ما يمكن أن يحمي لبنان من استمرار هذه الحرب ويجنبه الدمار الذي ما زال قابلاً للتوسع والازدياد طالما أن الأطراف الخارجية ما زالت تصطدم على أرضه. فإسرائيل اليوم ماضية في حماية حدودها الشمالية مهما كلف الأمر، والغرب ماض في دعمها، ومهما كلف الأمر أيضاً.. أما من سبيل عربي إذن لجعل التكلفة على اللبنانيين أقل؟ نأمل أن يكون الجواب: بلى!