بقلم: عبدالوهاب بدرخان – النهار العربي
الشرق اليوم- أين إيران، وأين “الساحات”، وأين “المحور”؟ تبدو كأنها غائبة عما يحصل وما هو آتٍ في لبنان، كما كانت عاجزة ومتهرّبة مما سبق في غزّة؟ بعدما أصبحت كل “ساحة” تعمل وفقاً لظروفها، كما قيل، غدت “وحدة الساحات” شعاراً وهمياً وانتهى، أو أنها سقطت في الاختبار الذي أُعدّت له ضد إسرائيل.
أولى “الساحات” في سوريا تموضعت، بأمر أو نصيحة من موسكو، خارج الخدمة في الصراع الحالي منذ اندلاعه. الثانية، غزّة، وهي الأهم استراتيجياً لإيران، اختارت التدمير الذاتي قبل أن تعرّض نفسها لتدمير إسرائيلي منهجي. أما الثالثة، المتمثلة بـ”حزب إيران/ حزب الله”، وهي “جوهرة التاج الإمبراطوري” كما توصف، فتلقّت أخيراً ضربات قاسية أودت بنحو جيل من قادتها ووضعتها أمام حدود قوّتها. وأما الرابعة العراقية والخامسة اليمنية فتبدوان أكثر أهمية من أن تضحّي طهران بهما، إما لقربهما الجغرافي منها أو لأنها خصّصت لهما وظيفة إقليمية تتعلق بحماية نفوذها على المدى الطويل، ومن ذلك مواصلة استخدامهما مصدر تهديد لدول الخليج.
في الشهور الثلاثة الماضية غدا وقف إطلاق النار في غزة عقدة العُقد. أرادته الإدارة الأميركية لزوم الانتخابات الرئاسية وفشلت في فرضه. طلبته طهران في كل اتصالاتها مع واشنطن كشرطٍ لتخفيف ضغوط “المحور” على إسرائيل والقوات الأميركية في المنطقة وعلى أمن الملاحة التجارية في البحر الأحمر. لكن أبرز أسباب استعصاء التوصّل إلى “الصفقة” أن متطرّفي الحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، حدّدوا ثلاثة أهداف: 1) استدامة احتلال قطاع غزّة، 2) إعادة رسم الخريطة الديموغرافية للضفة الغربية بالاستيطان والتهجير وحصر المناطق السكنية للفلسطينيين وتحويلها إلى معازل (تطبيقاً لـ”صفقة القرن”)، و3) تغيير الواقع الأمني في الشمال/ جنوب لبنان، مع الحفاظ على تفوّق إسرائيلي عسكري وأمني. وهناك سبب آخر للاستعصاء هو أن “حماس” تريد أن تبقى بشكلٍ أو بآخر في “حكم” القطاع، وإذ تُظهر مرونة حيال عودة السلطة الفلسطينية إلى غزّة فهذا لا يعني تخلّيها عن هدف التخلّص من هذه السلطة في الضفة، وتعتقد أن “شعبيتها” هناك تسمح لها بذلك، مهما تطلّب الأمر من وقت.
لم يغب عن أذهان قادة إسرائيل أن محاربة “حماس” وسائر الفصائل في غزّة هي جزء من محاربة إيران ومحورها. فلطالما كان ضرب الأذرع والميليشيات خطوة لا غنى عنها في المواجهة مع إيران، أو بديلاً ممكناً من الحرب المباشرة عليها، إذ إن إضعاف وكلائها يضعفها. وبعد تحييد النظام السوري، سواء بتهديده مباشرةً أم بمساهمة من “الصديق” الروسي، ثم إضعاف “حماس” والفصائل الأخرى في غزّة، بقيت الترسانة الصاروخية الضخمة التي تجمّعت لدى “حزب إيران” في لبنان. فهذه كانت مقلقة للولايات المتحدة ولإسرائيل التي قالت مراراً إنها لن تتعايش معها إلى ما لا نهاية. وقبل عملية “طوفان الأقصى” التي طرحت فيها “حماس” التحدّي الأكبر لقوّة إسرائيل وغطرستها، كانت هناك مساجلات نارية مع “الحزب” عبر الحدود، أما بعد “الطوفان” فتغيّرت الظروف والعقلية والأهداف وتلاشى القليل النادر مما تبقّى من احترام للقانون الدولي لدى الجانب الإسرائيلي لتتصدّر الوحشية الخالصة.
وكما ظنّت “حماس” أن الردّ الإسرائيلي على عملية “7 أكتوبر” يمكن أن يتوقف عند حدّ معيّن، كذلك ظنّ “حزب إيران/ حزب الله” أن في إمكانه مشاغلة إسرائيل ومساندة غزة ضمن “قواعد الاشتباك” وبمستوى من الأخطار يمكن أن تتحمّله بيئته الحاضنة وتتقبّله. وكما أظهرت “حماس” تكيّفاً مع الكارثة الشاملة التي حلّت بالقطاع واستعداداً لتبريرها بأن هدف التخلّص من الاحتلال يستحق هذه الخسائر البشرية والعمرانية الهائلة، كذلك أبدى “الحزب” اللبناني الكثير من الصبر إزاء خسائره ودمار العشرات من القرى الحدودية والحقول الزراعية التي تحوّلت إلى أرض محروقة. لكن “حماس” لم تقرّب الشعب الفلسطيني من نهاية الاحتلال الذي اتخذ من “طوفانها” منصة للتجدّد والتوسّع ولممارسة الإبادة الجماعية، ولا “حزب إيران” استطاع أن يقنع أحداً بجدوى مساندته لغزّة لأن صواريخه ومسيّراته لم تمنع قوات العدو الإسرائيلي من تنفيذ عملياتها في كلّ أنحاء القطاع وأبقته في حال الحرب قائمة لتنتقل إلى الحرب التالية على لبنان.
فجأة وجد “الحزب” اللبناني نفسه أمام نمط من الحروب لم يتوقعه، وأصلاً لم تقدم عليه أي دولة سابقاً لأنه “جريمة حرب” واضحة لم يلحظها أيٌّ من القوانين الدولية المقيّدة للحروب، لأنها وُضعت قبل العصر السيبراني. هذا النمط بُني على اختراق استخباري إسرائيلي عميق لصفوف “الحزب”، ولم يظهر أولاً في تفجيرات أجهزة “البيجر” والاتصالات اللاسلكية وتحييدها بضع مئات من مقاتليه “خلال دقيقتين”، بل في سلسلة طويلة من الاغتيالات للقادة الميدانيين في الجنوب، كما في اغتيال صالح العاروري (قائد “حماس” في الضفة) ثم القائدين العسكريين لـ”الحزب” فؤاد شكر وإبراهيم عقيل ورفاقهما في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت. لم يعد في إمكان زعيم “الحزب” القول إن البنية العسكرية لم تتأثر، ما دامت صواريخه لا تزال تسقط على مواقع للعدو، أو القول إنه سيردّ، أو إنه لا يريد الحرب، لأن العدو هو يبحث عن الحرب ويستدرجه إليها.
لكن خيارات “الحزب” للردّ أو لخوض حرب واسعة أصبحت محدودة، لا بسبب الخسائر البشرية التي مُني بها وهي باتت تعادل خسارة حرب كاملة، ولا بسبب قلة الإمكانات، بل لأنه ربما لا يعرف مدى الاختراقات الأخرى في صفوفه، ولأن العدو أسقط كل القواعد والضوابط وبرهن “عدم ارتداعه”، وأيضاً لأن “الحزب” يواجه للمرة الأولى اختلال ميزان القوى لمصلحة العدو. وإذا كان “عدم الردّ” ليس خياراً، فإن الردّ بات محكوماً بالمعادلة التدميرية التي نقلتها جهات عدة إلى “الحزب” (“حيفا مقابل الضاحية، وتل أبيب مقابل كل لبنان”)، ما يعني أن يقرّر قبل إقحام صواريخه الدقيقة في أي مواجهة: هل يريد “غزّة ثانية” في الضاحية أم في عموم لبنان؟… الأسوأ أن “الحزب” لم يترك لنفسه أي خيار للتراجع، بل إنه قلّص المكاسب التي ربما كانت متاحة في “الحلول الدبلوماسية” التي عُرضت عليه ورفضها.