بقلم: إميل أمين- العربية
الشرق اليوم– في خطابه الوداعيّ الأخير، الذي ألقاه الرئيس الأميركي الشهير دوايت أيزنهاور، أو الجنرال “أيك”، وقبل أن يُسلِّم السلطة وزمام القيادة للسيناتور الشاب، جون كيندي الفائز بالرئاسة، أطلق الرجل تحذيرًا من تأثير ما سيعرف لاحقًا باسم “المجمع الصناعيّ العسكريّ الأميركيّ”، على سياقات الديمقراطيّة الأميركيّة، وفي المقدّمة منها عمليّة انتخاب الرئيس.
بعد نحو عامين من تحذيره، اُغتيل كيندي غدرًا، فيما تُجمِع غالبية إن لم تكن كلّ التحليلات التاريخيّة المُعمَّقة، على أنّ هذا المجمع هو الذي كان وراء تغييب كيندي، رفضًا لرؤاه التصالحيّة والسلميّة مع الاتّحاد السوفيتيّ، وإرهاصات الوصول إلى نهاية زمن الحرب الباردة.
حديث المجمع الصناعيّ العسكريّ ليس بالجديد، وإن كان لا يزال فاعلاً بقوة كبيرة عبر ثلاثة أضلاع: أصحاب المصانع التي تنتج الأسلحة الثقيلة والخفيفة على حدٍّ سواء، وأعضاء الكونجرس بمجلسَيْه، أولئك الذين يُشرِّعون الحروب ويقفون وراء إذكاء نيران المعارك، عطفًا على جنرالات البنتاغون، أولئك الذين يديرون المعارك لوجستيًّا على الأرض اليوم، وفي الغد يتم ترفيعهم لمستشارين في تلك الشركات، ثم أعضاء في الكونغرس.
على أنه وعبر ستة عقود خلت، أي منذ أن توارى أيزنهاور، واُغتيل كيندي، لم يعد الطريق إلى البيت الأبيض مرهونًا فقط بإرادةٍ عُليا لأصحاب ذلك المجمع، إذ قد ظهرت جماعات ضغط متعدّدة، منها ما هو سياسيّ نسبيّ، ومنها ما هو ماليّ مجرد، وثالثًا دوجمائيّ مُطلَق.
السؤال جوهر هذه السطور: “هل يعني هذا أن ديمقراطية العملية الانتخابيّة الرئاسية، هي ديمقراطية زائفة؟
الجواب يأخذنا في طريقَيْن، الأول إجرائيّ تكتيكيّ من حيث طريقة انتخاب الرئيس، والثاني عمليّاتيّ استراتيجيّ تبعًا لمقدَّرات الفاعلين الحقيقيّين، الذين يرسمون المسارات، ويحلون تاليًا في المدارات السلطويّة العُليا.
وبمزيد من التفكيك، يمكن القول إن الطريقة التي تجري بها الانتخابات الرئاسية الأميركية، تشوبها شكوك حول ديمقراطيتها، لا من حيث كيفية الاقتراع أي عبر البريد أو التصويت المبكّر، وصولاً إلى اللجان وكشوفاتها التي تمتلئ بأسماء الموتى، بل من عند حرمان المواطن الأميركي نفسه من التصويت المباشر لرئيس ينتخبه هو وكما يحلو له، لا أن يقوم مندوبون آخرون بهذا الخيار، وهو النظام المعروف باسم المجمع الانتخابي أو الكلية الانتخابية، حيث الفائز بالأصوات الشعبية يكتسب تلقائيًّا أصوات مندوبي الولاية.
والثابت أنه على الرغم من مخاوف الكثيرين من مستقبل اللاديمقراطية عبر هذا النظام الانتخابي، إلا أنه لا يبدو أن تغييرًا عميقًا سوف يطرأ عليه في القريب العاجل أو المدى الزمنيّ المتوسّط.
ماذا عن هؤلاء الفاعلين الحقيقيّين القادرين على توجيه دفة الأحداث كيفما يتراءى لهم؟
باختصار غير مُخِلّ، الجواب يعود بنا إلى دائرة إشكاليّة لم يتم إيجاد حلّ لها حتى الساعة، تلك الموصولة بمسألة التبرّعات للمرشَّحين.
يقول البعض إن الديمقراطية الأميركية تُباع اليوم على الأرصفة، والتعبير مجازيّ ولا شك، ويذكرنا بالمقولة القديمة: “من يدفع للجوقة الموسيقية، قادرٌ على تحديد اللحن”.
لم تفلح المحكمة الأميركية العليا في وضع حد لمهاترات التبرّعات، والتي تتيح للمرشّحين الوصول إلى عقول الجماهير، وربّما القيام بغسلها وتوجيهها على غير هدى، أو بالضد من الحقائق الرئيسة الواجب كشفها أو مصارحتها بها.
تبدو مسألة التبرّعات والأموال الساخنة التي تتدفق على حقائب قادة الحملات الانتخابية، أمرًا خطيرًا جدًّا على الأمن القوميّ الأميركيّ بدايةً، وعلى فكرة الديمقراطيّة الغنّاء ثانيةً، فقد جرى قبل عقدَيْن الحديث عن إمكانية قضاء ليلة في مقرّ أبراهام لنكولن في البيت الأبيض، والإفطار في اليوم التالي مع الرئيس مقابل التبرع بمائة ألف دولار لحملته الانتخابية.
خُذْ إليك على سبيل المثال التبرعات الهائلة التي حصدتها المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس منذ أن انسحب الرئيس بايدن، إنها ملايين قادرة على أن تفعل العجب العجاب في سياق التصويت المتوقَّع خلال نحو ستين يوما من الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
حديث الأموال المتراكمة عند هاريس يُذكِّرنا بحملة باراك أوباما، والذي قدم للأميركيين عناوين عن الأمل، ولم يحصدوا من ورائه سوى السراب.
كانت التبرعات الصغيرة من فئة العشرين والعشرة دولارات، هي التي مَكّنته من شراء أفضل الأوقات على وسائل الإعلام التقليدية، من تلفزة وإذاعة، في أول ولاية له عام 2008، ووقتها لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي قد انفجرت على النحو الذي نراه.
كيف سيكون أثر تلك الملايين المنهمرة على هاريس، وهل يمكن أن تُستخدَم في خدمة الحقيقة أم الزيف؟
المؤكَّد أن الفاعل الحقيقي اليوم والذي بات لا يقلّ ضراوةً عن المجمع الصناعيّ العسكريّ، هو عالم المال في ترابطه وتشابكه مع الإعلام، القادر على أن يُبَرّئ المذنب ويذنب البريء، وكلاهما مكرهة للحقيقة.
يفتح الإعلام غير التقليدي اليوم، بأدواته العصرانية، أبوابًا منحولة ومزيفة للحقائق، لا سِيّما إن أخذنا في عين الاعتبار أزمة المعلومات المدسوسة، والتي هي نتاج لرافد آخر يبدو أن البشرية باتت رهنًا له بدورها.. ماذا عن ذلك؟
المؤكد أننا نعني عالم الذكاء الاصطناعي، وقد تكون إفرازاته هذه المرّة ومشاركاته في العملية الانتخابيّة متواضعة، لكن حكمًا ستكون انتخابات الرئاسة 2028 القادمة ساحة لألاعيب وأحاييل ربّما السوبر ذكاء اصطناعي، وفي عمقه ستضيع الحقائق بشكل كامل، وسيضحي المشهد أقرب ما يكون لعوالم الجن والسحر، منها إلى واقع البشر الحياتيّ المعاصر.
تجاوزت البشرية فكرة المتلاعبين بالعقول إيديولوجيًّا عبر أزمنة الذكاءات الاصطناعية، غير أن ذلك لا يعني موت الإيديولوجية، وما هو طافٍ على سطح الأحداث في الداخل الأميركي، يمكن اعتباره عاملاً آخر من العوامل التي تحدد الفائز بالرئاسة الأميركية.
ما يجري اليوم في الداخل الأميركي، وقبل انتخابات رئاسية غير مسبوقة، هو صراع شديد الوطأة مبرمج لا برسم التنافس السياسي الشريف، وبهدف الخير العام لصالح أميركا الفكرة والرمز، ومن أجل حياة افضل للأميركيين، بل بملامح ومعالم الحرب والكراهية شديدة الوقع والوطأة، تلك التي تستبيح حدود الأخلاقيات، وآداب السياسة العامة، وعلى غير المصدق أن يتابع ما يجري من خوض في الحياة الشخصية للمرشحين واعتبارها “كعوب أخيل” الواحد في جسد الآخر، وكأن كلَيْهما يستحضر القول: “إن أرسطو رجل له ماضٍ فلسفيّ، أمّا ميكيافللي فله مستقبل سياسي”.
هل التلاعب بالمقدرات الروحية والدينية، الايمانية والوجدانية تلعب دورًا مؤثرًا في وصول أحدهم إلى البيت الأبيض وقطع الطريق على الآخر؟
ذلك كذلك قولاً واحدًا، ومن هنا فإننا نرى صحة جديدة لليمين الديني الأميركي، بعد تلك التي شهدناها في حقبة المحافظين الجدد خلال تسعينات القرن الماضي، غير أنهم هذه المرة لا ينفذون من فكرة “القرن الأميركي”، وبهواية أو غواية للسيطرة على العالم، وإنما من باب مواجهة التيار اليساري الديمقراطي الذي انحرف بأميركا عن طريقها كدولة علمانيّة الهويّة دينيّة الهوى.
أميركا أمام اختبار صعب وفرص النجاة من المواجهة تتقلّص، فيما تتّسع فوّهة الفخاخ المنصوبة في طريق الدولة مالئة الدنيا وشاغلة الناس.