بقلم: جمعة بوكليب- الشرق الأوسط
الشرق اليوم– المفترض عقلانياً ومنطقياً أن يكون العنوان أعلاه معكوساً، أي في الإمكان أبدع مما كان، اتساقاً مع طموح الإنسان، أينما كان، إلى حياة أفضل. إلا أن الرياح في ليبيا، للأسف الشديد، تصرُّ بعناد، ومنذ سنوات، ألا تسير وفقاً لاتجاه المستقبل الذي تشتهيه قلوب الليبيين. أزمة الاستحواذ بالقوة على مصرف ليبيا المركزي، وما صاحبها من قرار التوقف عن استخراج وتصدير النفط مؤخراً أفضل مثال.
كل المؤشرات خلال الأعوام الماضية كانت تقود إلى الأزمة الحالية في ليبيا. الصراع بين الأطراف المتناحرة كان وما زال، منذ فبراير (شباط) 2011، يتمثل فيمن يتمكن، بقوة السلاح وليس بالشرعية الدستورية والقانونية، من الاستحواذ على مفاتيح خزائن المصرف المركزي.
الأزمة طفت على السطح مؤخراً على شكل انفجار. وأدَّت إلى إيقاف المصرف المركزي لكافة العمليات المصرفية، وكذلك أدَّت إلى ايقاف حكومة بنغازي عمليات استخراج النفط وتصديره، نتيجة قرار المجلس الرئاسي بإقالة المحافظ. وأعادت ليبيا بعد غياب إلى عناوين الأخبار في النشرات الإخبارية الدولية. فالعالم اليوم، كما علمتنا في ليبيا محنة السنوات الماضية، لا يولي اهتماماً ومبالاة بنشوب حرب بين جماعات مسلحة، ولا يهتم بموت مواطنين ليبيين بلا جريرة، أو دمار ممتلكاتهم، إلا أن الأمر يختلف حين يتعلق بوقف استخراج وتصدير النفط الليبي.
محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير هو الثابت الوحيد في الساحة منذ تعيينه عام 2011. خلال فترة وجوده شهدت ليبيا 9 رؤساء حكومات، و9 مبعوثين أمميين. نجاحه في البقاء والحفاظ على منصبه وامتيازاته نابع من دهائه في إرضاء رؤساء الحكومات، وعدم الدخول في مواجهات معهم إلا عند الضرورة القصوى، وكذلك الأمر مع قادة الجماعات المسلحة. ومن المهم التذكير أنه في أغلب السنوات الماضية، كان يقود المصرف وحده، بعد أن تخلص «بقدرة قادر» من أعضاء مجلس الإدارة. وبذلك يكون الرئيس الوحيد في العالم لمصرف مركزي، من دون مجلس إدارة يحاسبه ويشاركه الرأي والمشورة، ويتحمل معه المسؤولية.
الأزمة الحالية بين المحافظ ورئيس حكومة طرابلس، عبد الحميد الدبيبة، لا تختلف عن تلك التي سبقت بين المحافظ ورئيس حكومة طرابلس السابق فائز السراج. ومحورها الإنفاق الحكومي. إذ جرت العادة أن المحافظ، لكسب ود رؤساء الحكومات، تبنّى، عبر السنوات الماضية، سياسة تقوم على فتح خزائن المصرف أمامهم، بالتسامح في الإنفاق الحكومي غير المرشد. الفرق بين الأزمتين السابقة والحالية، أن رئيس حكومة طرابلس الحالية قام بتوجيه ضربة استباقية غير مسبوقة، بإقناعه رئيس المجلس الرئاسي بإصدار قرار بإقالة المحافظ وتعيين بديل ومجلس إدارة. علماً بأن المجلس الرئاسي كيان بروتوكولي، وليس من اختصاصه تعيين أو إقالة المحافظ، والقرار قانوناً من اختصاص مجلس النواب.
خلال الأزمة بين المحافظ ورئيس الحكومة السابق فائز السراج، اضطر المحافظ إلى قفل خزائن المصرف أمام الإنفاق المفرط للحكومة. وأدَّى ذلك إلى سقوط الحكومة، وخروج فائز السراج من المشهد السياسي. إذ ماذا بمقدور رئيس حكومة فعله من دون قدرته على توقيع الصكوك؟ وكاد الأمر نفسه يتكرَّر هذه المرة، حين أغلق المحافظ الخزائن أمام إنفاق حكومة طرابلس المفرط للمال العام، على أمل أن يرفع رئيس حكومة طرابلس راية الاستسلام، ويغادر. لكن السحر انقلب على الساحر. وبدلاً من خروج عبد الحميد الدبيبة مهزوماً، وجد المحافظ نفسه طائراً في الهواء، بركلة من جهة غير متوقعة، وغير مخولة قانوناً.
المحافظ رفض قرار الإقالة بحجة أنه صادر عن جهة غير مخولة قانوناً. وهو صحيح. وصحيح كذلك أن المحافظ بذاته، في عام 2018، رفض قراراً بإقالته صادراً عن مجلس النواب، الجهة المخولة قانوناً!
الآن وقد وقعت الفأس على الرأس، ودخلت ليبيا في أزمة لا سوابق لها، وأوقف المصرف المركزي عملياتِه المحلية والدولية، وأوقف رئيس حكومة بنغازي استخراج وتصدير النفط، مشترطاً عودة المحافظ إلى قلعته، واستحوذ العناد على رؤوس الأطراف المتصارعة، ولم يبدِ أي منهم رغبة في التفاوض والوصول إلى مصالحة تكفل إعادة الأمور إلى نصابها، ليس أمام 6 ملايين مواطن ليبي سوى الالتجاء إلى الله بالدعاء، والاستعانة بالصبر، إن توفر لديهم.
السؤال: هل ستتغير معادلة الثابت والمتحول؟ بمعنى أيٌّ من الرؤوس المتورطة في الأزمة ستطير؟ هناك تكهنات تميل إلى احتمال تكوين حكومة مصغرة جديدة. وهذه في حالة تحققها، وهو ضعيف، يعني أنَّ رئيس حكومة طرابلس سيزال، وسيؤتى ببديل سيكون العاشر في السلسلة. لكنه سيكون حلاً مؤقتاً، بائساً ويائساً، ولا يختلف عن غيره مما شهدنا من حلول مؤقتة، وسوف يزيد في تفاقم الأزمة وتعقيدها.
الحلُّ الذي يعرف جميع اللاعبين على الساحة أنه كفيل بحلّ الأزمة نهائياً، ونعني به إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة، وتخلص البلاد من الكيانات فاقدة الصلاحية، وأن تعيد وضع الحصان أمام العربة – غير مرغوب فيه، ويتم تجاهله عمداً، لأنَّ في تحققه ووجوده فعلياً موتهم سياسياً.