بقلم: عبد الله علي إبراهيم- اندبندنت
الشرق اليوم– اكتنف التداول حول كلمة الفريق ركن عبدالفتاح البرهان للصحافيين الأحد الماضي نذراً عن قرب انقسام السودان، وليس في حديثه ولا تعليق قوات “الدعم السريع” عليه مع ذلك بما يأذن بمثل هذه النذر. فجدد البرهان في كلمته عهد القوات المسلحة أن تنهي الحرب في دارفور قبل أي ولاية في الشمال أو في الوسط وأن السودان موحد، وأكدت “الدعم السريع” من جهتها أنها حيال تمنع الجيش عن التفاوض، ستفكر في إنشاء حكومة في الخرطوم وليس في أي جهة أخرى.
ومع ذلك، فلربما جاءت هذه المخاوف من الانفصال من كلمة لم يحسن البرهان عرضها، فقال إن الناس يتحدثون عن خيارات طُرحت بأن تكون الخرطوم للجيش في حين تكون الفاشر، عاصمة ولاية دارفور لـ”الدعم السريع”، وزاد لاحقاً أن العرض قضى بأن تكون الخرطوم والجزيرة للجيش، والفاشر للقوات المشتركة، أي حلفاء الجيش من قوات الحركات المسلحة، ولـ”الدعم السريع” البقية الباقية. ولا نستبعد أن الناس فهموا منه أن هناك من جاءهم بمثل هذا العرض حتى مع قوله إنه لم يطرح عليهم، مما يعشعش من قدم في رأس من سماهم “المستعمرين الجدد”، بل زاد أنه لن يسمح حتى لأحد أن يأتيه بمثل هذا العرض. ولا يدري المرء لم احتاج البرهان إلى أن يطلع الناس المؤرقة بهاجس تقسيم البلد، ضمن هواجس أخرى عنها، بما يعشعش في رؤوس مبتلية بهذه المشاريع بينما لم يعرض أحد منهم هذا التقسيم عليه. فصعب أن يصدق الناس، وهم في هذه الشفقة على وحدة البلاد، أن هذا العرض بتقسيم البلاد “مجرد كلام أحلام” كما قال، وسيقولون إن العرض لا بد من أنه وقع والبرهان إنما يتجمل.
وأثار البرهان بحديثه مخاوف الانفصال من دون أن يقصد ربما، فأدلت النخبة بدلوها عن الانفصال كل بطريقته. فقال القيادي في تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية “تقدم” خالد عمر يوسف إن “الانقسام حق، فالمجتمع الدولي شرع يتعامل مع السودان كمناطق نفوذ توزعت بين الجيش و’الدعم السريع‘، بل الحركة الشعبية لتحرير السودان التي انتبذت السودان منذ أكثر من عقد وأنشأت دولتها المستقلة في جبال النوبة بجنوب كردفان”، وجاء عمر يوسف في معرض خشيته من تشظي السودان بزعم “الدعم السريع” إقامة حكومة في الخرطوم للحد من شرعية البرهان، مما يعني، في رأيه، خطر التقسيم وتكرار تجربة ليبيا. ومع أن فكرة “الدعم” في إنشاء حكومتها في الخرطوم أقرب للوحدة منها إلى التقسيم ما دام أنها ستكون في مركز البلاد التاريخي، بل قالت “الدعم” إنها لن تسمح بتفكيك السودان في مثل ما حدث بانفصال جنوب السودان عام 2011.
ورأى القيادي في الحزب الشيوعي تاج السر عثمان أن رفض البرهان التفاوض كما حدث في إضرابه عن حضور مؤتمر جنيف (14 أغسطس/ آب الجاري) سيسعر الحرب، “مما يهدد وحدة البلاد بعد تصريح الدعم السريع أنها قد تلجأ إلى تكوين حكومة في الخرطوم للحد من شرعية سلطة البرهان، مما يعني خطر التقسيم وتكرار تجربة ليبيا.”
تقسيم السودان هاجس وطني كبير، فبلد فقد ثلث أرضه وشعبه بخروج جنوبه منه لا بد من أن يتحسس عقله حين تتناتشه مثل هذه النذر والإنذارات التي أتينا عليها أعلاه. ويقال “مَن ذاق عضّ الدبيب خاف من جر الحبل”، ولكن لم ينهض بعد أحد بحيثيات مقنعة بأن السودان إلى زوال بالتقسيم، فلم يصدر من أي طرف في هذه الحرب أي نأمة بالانفصال بأي جزء من السودان، وهذا بخلاف جنوب السودان الذي دعت صفوته إلى الانفصال وضرجت المطلب بـ “تمرد” الفرقة الجنوبية عام 1955 حتى قبل الاستقلال، ووقع الانفصال مع ذلك بالتفاوض بعد حرب طويلة باتفاق سلام كفل للجنوب حق تقرير مصيره، وقرر الجنوب الانفصال باستفتاء في 2011.
وجاءت أكثر المخاوف من تقسيم السودان من مصادر ثلاثة:
أولاً: من النموذج الليبي المنقسم بين بنغازي وطرابلس، ورأينا كيف لوّح به كل من خالد عمر يوسف وتاج السر عثمان من غير اتفاق، ومن يجلب هذا النموذج إلى الحالة السودانية يغض الطرف عن أمرين، أولهما أن بنغازي وطرابلس ظلتا دولتين منفصلتين حتى وحّدهما الاستعمار الإيطالي في 1924، أما الثاني فهو أن ليبيا، خلافاً للسودان، خاضت حربها الأهلية بالميليشيات من الطرفين وخلت من جيش قومي مهني كما عندنا. ومهما كانت قيمة هذين العاملين فهما مما لا بد منه أن يُستصحبا متى قاربنا بين الوضعين في السودان وليبيا.
ثانياً: وبالنظر إلى دارفور والسودان، ذاع خلال الحرب الأهلية في إقليم دارفور أنه ظل معتزلاً السودان في سلطنته التاريخية حتى غزاه السودان – التركي – المصري (1821-1885) قبل عقد من سقوطه هو نفسه، كما اعتزل السودان بعد استعماره بواسطة الإنجليز حتى ضموه إليه بعد نحو عقدين من احتلالهم له في 1898.
وهذه “حجة بلا سيقان” في تكوّن الأمم، فلم يكُن إقليم دارفور في تاريخه الوسيط بمنأى عن الجغرافيا السياسة لما سيكون عليه السودان لو لم “تتطفل” عليه قوى أجنبية استعجلت تكوينه لمآربها الخاصة، ولهذا يقال عن عيب الاستعمار في المدى الطويل إنه قطع التطور التاريخي الطبيعي للممالك والجماعات التي احتلها. فلربما كانت أسفرت تلك الكيانات عن أمم مطابقة لما اتفق للاستعمار، أو اختلفت قليلاً أو كثيراً. وتغطي عن ذلك الإمكان في تكوّن السودان أمة بغير حاجة لتدخل أجنبي مقولة إن الاستعمار اصطنع مثل حدودنا بإملاء من مصلحته ومنافسته مع مستعمرين آخرين. وكأن البلاد التي أنشأها الاستعمار مثل السودان حالة مصطنعة مغشوشة، وقد يصدّق هذا في حالات بعينها من صناعة الاستعمار للحدود كما حصل في فصل غامبيا عن السنغال بصورة كاريكاتيرية تعسفية لمجرد فضّ نزاع وقع يومها بين بريطانيا وفرنسا.
وقال عالم سياسي نيجيري إن نيجيريا بحدودها الحالية كانت خيال أمة تحت التكوين جاء الاستعمار أو لم يأتِ، وكانت نيجيريا ما قبل الاستعمار بصدد أن تكون نيجيريا قصُر الزمن أو طال. وكان دارفور بسلطنته المستقلة في العصر الوسيط لبنة في خيال أمة سودانية تحت التكوين لو لم يقطع الغزو التركي – المصري ذلك التطور التاريخي لتلك الأمة. فتقاطع تاريخ سلطنة دارفور في القرنين الـ 17 والـ 18 مع التاريخ السياسي والاقتصادي للوسط النيلي كما تمثل في سلطنة الفونج (1540-1821) وعاصمتها سنار على النيل الأزرق. وكان إقليم كردفان، ومركزه مدينة الأبيض، هو عظمة النزاع بين السلطنتين، فاتخذه فرع من الأسرة الحاكمة في دارفور، عرف بـ “المسبعات”، مهجراً ودولة. وكان ذلك الفرع خسر مطلبه بعرش السلطنة، وبقي في كردفان يتربص للعودة إلى الحكم في الفاشر. واتصلت علاقتهم مع سلطنة الفونج مما أقلق سلطنة الفور، بل تحالف ذلك الفرع الغبين مع جماعات من دارفور وكردفان والنيل الأوسط لغرض استعادة عرشه في الفاشر. وظلت المعارك حول السيطرة على كردفان بين الجماعات الثلاث سجالاً، وظهر من “المسبعات” أمير مغامر هو هاشم المسبعاوي الذي جيّش حملة من جماعات بدوية من كردفان ودارفور، بل من أهل النيل مثل الشايقية والدناقلة وهجم على شرق دارفور، فلقيه سلطان الفور وهزمه ورده لاجئاً إلى حلفائه شعب الشايقية على النيل ليتقوى ويعود لمطلبه في حكم دارفور، وبلغ جيش الفور في حروبه في كردفان النيل مرة إلا أنه رجع. ودانت كردفان لسلطنة الفور ثلاثة عقود حتى خلعهم منها جيش محمد علي باشا بقيادة الدفتردار.
ثالثاً: لمجيء دارفور إلى السودان متأخراً في عهدي الحكم التركي والإنجليزي، إذ كان هو الحجة القاطعة على أنه غُصب على الالتحاق بالسودان، وهو تفسير متعلّق بحسابات تلك القوى الغازية لا عن أنها ذاتية للإقليم منفصلة ومعتزلة عنه. فكان الباشا الخديوي في مصر أمر الدفتردار أن يحتل دارفور بعد إقصاء الأسرة الدارفورية الحاكمة عن كردفان، ولم يتمكّن من ذلك، فاستدعته ثورة على النيل على الجيش الغازي قتلت إسماعيل بن محمد علي باشا، فانصرف عن غزو دارفور وتوجه إلى النيل للقضاء على الثورة بصورة فظة عرفت في كتب التاريخ بـ”حملة الدفتردار الانتقامية”. وانتظر ضم دارفور إلى السودان حتى 1874 حول صراع دار إزاء الطريق التجاري الذي يعبره إلى مصر.
أما الإنجليز، فتركوا عليه سلطاناً منه هو علي دينار في حالة تباعة vassalage، ودفع الجزية إقراراً منه بسيادة الإنجليز عليه. وخلصوا إلى تلك الصيغة لأنهم استبعدوا دارفور واستكثروا النفقات التي تلزمهم بغزوه، بخاصة إذا كان هناك من سيديره لهم بكلفة زهيدة، ولما خرج علي دينار عليهم موالياً تركياً في 1916 قضوا عليه وأدرجوا دارفور ضمن السودان الإنجليزي – المصري.
كانت سلطنات وجماعات السودان الحالي قبيل الاحتلال التركي – المصري تختمر حرباً وسلماً كأمة تحت التكوين. ولا يصح أن ينهض تأخر انضمام دارفور إلى السودان جراء توقيت اتفق للدول التي احتلت الأجزاء الأخرى حجة لفصل دارفور عنه على بينة منه، بل ربما صحّ القول إن دارفور ربما اندرج في السودان بأسرع ما فعل تحت الاستعمار الأجنبي، وربما حدث له ذلك في شروط وطنية أفضل من تلك التي اكتنفت ضمه المتأخر العنيف إلى السودان.
وأن يأتي دارفور أخيراً إلى السودان مهما يكُن أفضل من ألا يأتي.