بقلم: راغدة درغام – النهار العربي
الشرق اليوم- بدأت القيادات في مختلف دول العالم تتأقلم مع إمكان فوز مرشحة الحزب الديموقراطي كامالا هاريس بالرئاسة الأميركية، بعدما كان فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب شبه مؤكدٍ قبل شهر واحد ضد منافسه حينذاك جو بايدن.
تلك المناظرة بين بايدن وترامب التي أحدثت انقلاباً في الانتخابات الرئاسية صنعت التاريخ، ليس فقط بتنحي بايدن عن الترشح بل بالزخم غير المتوقع الذي رافق ترشيح هاريس ونفض الحزب الديموقراطي وترك ترامب في غفلة واستياء ومرارة وربما انتكاسة. لا شيء مضمون في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبالتالي فإن فرص فوز ترامب ما زالت جديّة. الجديد أن القيادات العالمية في روسيا مثلاً أو الصين أو أوروبا أو الشرق الأوسط لم تعد واثقة بفوز ترامب كما كانت بعد المناظرة ومحاولة اغتياله وإصرار بايدن على عدم التنحي، حينذاك انصبّت الجهود على نظرية عودة ترامب إلى البيت الأبيض. اليوم، عادت فرق دراسة أميركا وانتخاباتها في كل الدول إلى طاولة رسم السياسات، آخذةً في الاعتبار أن كامالا هاريس قد تصبح رئيسة للولايات المتحدة. نبدأ في إعادة النظر ودراسة مَن هي هذه المرأة التي كانت شبه مجهولة على الساحة العالمية منزوية في مكتب نائب الرئيس، ومَن هي المرأة التي أُعيد اختراعها وأعادت اختراع نفسها حالما أصبحت مرشحة للرئاسة الأميركية.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على سبيل المثال، لا ينظر إلى كامالا هاريس على أنها الند والنظير، لأنه لا يرى فيها معالم أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية السابقة التي كانت بينه وبينها علاقة مهنية قائمة على الاحترام بعيدة عن الفوقية والذكورية. صعب أن تكون هناك “كيمياء” بين بوتين وهاريس، بحسب تقدير الذين يعرفون بوتين جيداً. لكن واقع الأمر أن ما لا يعرفونه هو المرأة في منصب الرئاسة الأميركية وكذلك مسيرة هاريس إلى منصب نائبة الرئيس. وهذا مفهوم لأنها لم تكن معروفة في السياسة الخارجية ولأنها التزمت متطلبات منصب نائب الرئيس كما حددها فريق الرئيس، أي في ظله.
اليوم، وبعد انتهاء مؤتمر الحزب الديموقراطي في شيكاغو وقبول هاريس رسمياً ترشيحها للرئاسة، بدأ صنّاع القرار في مختلف العواصم يفكرون بما قد تكون عليه رئاسة هاريس مقارنة برئاسة ترامب. روسيا مثلاً تفضل ترامب رئيساً لأن لديه أفكاراً وخططاً لإنهاء حرب أوكرانيا، وهو لن يكون متمسكاً بخطط توسيع عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتوطيد دعمه لأوكرانيا كما هو بايدن وكما قد تفعل هاريس. لكن من حيث المبدأ، هاريس ليست مهتمة بروسيا كما بايدن أو ترامب لأن أولوياتها هي القضايا الداخلية.
في الوقت ذاته، يخشى صناع القرار في موسكو وغيرها من طبيعة دونالد ترامب وشخصيته العدائية أحياناً والتهادنية حيناً آخر، لأنه متقلب المزاج وقراراته تحاكي الاعتباطية والتفرد في صنع القرار في بعض الأوقات.
في المقابل، يرى هؤلاء أن هاريس ستتجنب ارتكاب الأخطاء ولن تخاطر لأن المخضرمين السياسيين هم الذين يخاطرون وليس الجدد في مناصب قيادية كمنصب الرئاسة الأميركية. ولكن، ماذا عن الخبرة وعن القدرة على القيادة؟
صورة هاريس اليوم هي المرأة المرِحة التي تأتي بالفرحة وتحمل راية “إلى الأمام” و”لن نعود إلى الوراء”، عكس ترامب الذي يبدو تكراراً غاضباً يحمل عنوان المرارة. تُسوّق على أنها امرأة مَرِحة لكنها جديّة. تبدو امرأة بريئة، لكن من يقرأ تاريخها يدرك أنها مُحنّكة وراء الكواليس وبعيداً عن الأضواء، قادرة على التأقلم بسرعة مع ما يقتضيه طموحها. ثم إنها ستكون تلميذة مجتهدة عندما يُطوِّقها فريق مخضرم يعاونها في دراسة الملفات واتخاذ القرارات.
قد يكون واحداً من التحديات أمام كامالا هاريس ألّا تقع فريسة هيمنة الرئيس الأسبق باراك أوباما وزوجته ميشيل أوباما، لا سيّما أن أوباما اعتبر خلال مؤتمر الحزب في شيكاغو أن كامالا هاريس هي وريثته في الرئاسة. فسيرته الذاتية التي سجلها له التاريخ كرئيس لا تفيدها الآن، علماً أنه هو، مثلاً، من بنى العداء للدول الخليجية العربية واحتضن “الإخوان المسلمين” وتبنى فوقية الجمهورية الإسلامية الإيرانية وشرعن أذرعها ووكلاءها عندما وافق على إبعاد أدوارها الإقليمية عن المحادثات النووية.
الأمر تغيّر في عهد جو بايدن الذي اضطر مرغماً إلى إصلاح العلاقات مع الدول الخليجية العربية وفي مقدمتها السعودية. ثم إن فريق أوباما – بايدن بدوره تغيّر في نظرته إلى الدول الخليجية، لا سيما عندما أدرك أن لديها خيارات بناء العلاقات الاستراتيجية مع الصين وروسيا، وأن في وسعها لعب أدوار قيادية على الساحة الدولية.
فريق هاريس سيكون على الأرجح بمعظمه فريقها الحالي، أي أن مستشار الأمن القومي لنائبة الرئيس، فيليب غوردون، قد يصبح مستشار الأمن القومي للرئيسة هاريس. هذا جيد لأن غوردون دبلوماسي يتقن السياسة وهو خبير في الشؤون الدولية كافة: الأوروبية، الروسية، الصينية، والشرق أوسطية بشقها الإيراني، والعربي، والتركي. مبعوث الرئيس للشرق الأوسط، بريت ماكغورك هو من الطراز نفسه والأرجح أن يبقى في فريق رئاسة هاريس، إذا وصلت إلى الرئاسة.
التحدي الذي ستواجهه كامالا هاريس هو ماذا ستفعل مع إيران في كلتا الحالتين: السلم معها أو الحرب ضدها إذا انهارت المفاوضات حول غزة ووقعت حرب إقليمية بين إيران وإسرائيل ستضطر الولايات المتحدة، كما أوضحت، لأن تتحالف مع إسرائيل فيها؟ حتى إذا تم تجنّب الحرب، فما هي طبيعة العلاقات الأميركية – الإيرانية في ظل المقايضات التي شملت في عهدي أوباما وبايدن التنازل أمام إصرار طهران على الاحتفاظ بوكلائها وأذرعها كجزء لا تستغني عنه أبداً في سياستها الخارجية، مقابل مساعدتها في تجنيب أميركا الانجرار إلى الحرب إلى جانب إسرائيل؟
لا نعرف بعد إن كانت كامالا هاريس ستختم تلقائياً على استمرار سياسة استرضاء إيران حتى وإن كلّف الانحناء أمام القبول بأذرعها مثل “حزب الله” في لبنان والحشد الشعبي في العراق والحوثي في اليمن. هذا التحدي قد يجرها إليه الرئيس السابق دونالد ترامب الذي يتبنى سياسة إفلاس إيران عبر العقوبات ويرفض مقولة إفلات يدها نووياً بتمزيقه الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما معها. يقال إن هاريس تقبلت خطورة الاستمرار في غض النظر عن الأذرع الإقليمية لإيران. فإذا صدق ذلك، فماذا ستفعل؟
إيران مرتاحة إلى الانقلاب الذي حدث في الانتخابات الرئاسية الأميركية في غضون شهر عندما كان الافتراض أن دونالد ترامب في طريقه إلى البيت الأبيض. فطهران تريد الرئاسة للديموقراطيين الذين لها معهم علاقات ودّية وسياسية وبراغماتية، فيما العلاقة مع الجمهوريين وبالذات دونالد ترامب ستعيدها إلى الصرامة في فرض العقوبات ورفض الأذرع ومراقبة البرنامج النووي المتطوّر وتطويقها اقتصادياً وبالتالي خنقها داخلياً عبر الإفلاس.
القيادات العربية الخليجية تستعد للاحتمالين وهي حافظت على علاقات مع فريق ترامب وبالذات صهره جاريد كوشنر عرّاب الاتفاقيات الإبراهيمية، كما أنها رحبت بترميم العلاقات مع الديموقراطيين والتي كان قد نسفها باراك أوباما.
مصير المفاوضات حول غزة سيترك أثره المباشر على الحملة الانتخابية لكل من ترامب وهاريس. ترامب يتمنى ألّا تتأبط هاريس إنجاز وقف حرب غزة في خضم الحملة الانتخابية، لا سيّما أنه يرسم صورة هاريس على أنها الشريك لبايدن في السماح باندلاع الحرب في غزة وفي أوكرانيا على السواء. أما فريق بايدن – هاريس فإنه يصارع خياله وهو يتبنى التقطير والترقيع تكتيكاً واستراتيجية في معالجة حرب غزة بشقها الإسرائيلي كما بشقها الآخر الذي يضم “حماس” وإيران وأذرعها، لا سيّما “حزب الله” في لبنان.
هذا التكتيك المسمى براغماتية قد لا ينقذ هاريس إذا فشل من الآن إلى مطلع شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، موعد الانتخابات. شراء الوقت هو من صميم ما يعمل عليه فريق بايدن – هاريس كي لا يؤثر الوقت على مصيرهما في البيت الأبيض. لكن التطورات على الأرض قد تجرهما إلى الأسوأ في ظل التقطير والترقيع والترتيبات الانتقالية والإرضائية لإيران وإسرائيل و”حماس”.
ما وصلت إليه الأمور يتضمن تلك المعادلة الشخصية بين بقاء كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقائد حركة “حماس” يحيى السنوار أو زوالهما. كلاهما يريد الضمانات بأنه لن يُستهَدف بعد الاتفاق، أي أن نتنياهو يريد ضمان عدم محاكمته مع السماح له بخوض انتخابات جديدة، والسنوار يريد ضمان أمنه الشخصي بتعهد إسرائيلي وأميركي بأنه لن يُغتَال. وما دام الرجلان مستمرين في هذه الشروط، فستبقى الحلول إذا تمت موقتة وانتقالية، مُقطّرة ومرقّعة فيما ينزف أهل غزة وفيما يساند “حزب الله” حركة “حماس” في لبنان ويقدّمه فداءً لها وللسنوار.
هاريس لم تتعاطف أبداً مع “حماس” في خطاب قبولها ترشيحها للرئاسة. تعهدت بحماية إسرائيل وحق إسرائيل الدفاع عن نفسها والعمل حتى التوصل إلى وقف النار والإفراج عن الرهائن. دعمت هاريس حق الفلسطينيين في تقرير المصير والعيش بكرامة وسط تصفيق المؤتمرين. منظمو المؤتمر منعوا إلقاء الخطب الموالية لفلسطين من منصة الحزب الديموقراطي وتم إبعاد الناشطين الموالين لـ”حماس” عن المؤتمر. هكذا تقتضي السياسة، لا سيّما أثناء حملة انتخابية ساخنة جداً بين دونالد ترامب وكامالا هاريس.
قد يستمر ترامب في تسخيف هاريس واعتبارها يسارية وشيوعية وجاهلة وغير قادرة على القيادة، بل إنها ستقود أميركا نحو حرب عالمية ثالثة، بحسب تعبيره. لكن هاريس جمعت ما يقارب مليار دولار لحملتها في غضون شهر، وهي تحشد جيل الشباب والنساء والطبقة الوسطى وكذلك كبار الممولين من أمثال لورين جوبز، زوجة الأسطوري وراء “آبل” ستيفن جوبز.
وقد تسيء هاريس الاستفادة من الزخم وتسقط في الأخطاء وهي خارج النصوص المكتوبة مسبقاً لها والتي تم تدريبها عليها مثل خطاب شيكاغو وخُطب محطاتها الانتخابية. فنحن لا نعرف حقاً من هي امرأة الظل كنائبة للرئيس ولم نتعرف بعد فعلاً إلى المرأة الجديدة تحت الأضواء التي أُعيد اختراعها بين ليلة وضحاها.