بقلم: حسن إسميك- النهار العربي
الشرق اليوم– دعني أفترض أنني سأطالبك مباشرة أن تحتقر نفسك، وأن تشعر بالعار والخزي لما أنت عليه من الأحوال التي لا يد لك فيها، أو أن تشعر بالذنب على أفعال تعلم تماماً أنها ليست أفعالك، دعني أيضاً أوجهك نحو كراهية الآخرين والنقمة عليهم بلا سبب منطقي، وسأكون قد نجحت في ذلك إذا استطعت أن أقنعك بالحكم عليهم، وتجريمهم، واتهامهم بأسوأ الصفات، ورويداً رويداً سيصبحون ألد أعدائك، ولن تشعر تجاههم بأية مشاعر طيبة، بل ستحرض الآخرين عليهم، وستفرح إن لحقهم الأذى، وستعتبر أنهم بلا حقوق، وأنهم لا يستحقون ما يستحقه أمثالك سواء في حق التعبير عن الرأي، أو حق الاختلاف، أو الحق في الوجود. دعني أفترض ذلك كله. هل ستقبل؟ الجواب لا. إذ لا أحد يقبل أن يقيل عقله ويتركه جانباً، ويستسلم لتأثير الآخرين عليه، ويسمح لهم بأن يصنعوا له قيمه ويسيطروا على أفكاره وقناعاته ومعتقداته.
غير أن ذلك كله يحدث، بل ويحدث كثيراً في عصرنا، ليس لأن البعض يفرض ذلك بشكل مباشر وصريح، بل يوجهون الآخرين بطرق غير مباشرة، وعبر استغلال الحيل والعمليات النفسية، والتلاعب بالألفاظ وتمريرها في سياقات مصطنعة وموجهة مسبقاً، واستخدام تقنيات الصوت والصورة، والتخفي وراء أهدافهم الحقيقية بأخرى مزيفة، ولكنها براقة ولامعة، ولا يكاد يختلف عليها اثنان، هو ليس شيئاً من قبيل “دسّ السمّ بالعسل” كما قال العرب سابقاً، بل يكاد أن يكون سمّا صرفاً ولكن برائحة زكية ومذاق منكّه، هذا ما يفعله بعض من نسميهم اليوم المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي.
هم ليسوا المؤثرين الحمقى الذين بات المفكرون وعلماء النفس ينبهون إلى خطورتهم، وينتقدون المحتوى الذي يقدمونه، ويعملون على وضع الطرق المناسبة لتجنب تأثيرهم وحماية المجتمع منهم. من سأتحدث عنهم هنا ليسوا أولئك الحمقى الذين يؤثرون على المراهقين والسذج ومحدودي المعرفة، بل مؤثرون آخرون هم على العكس تماماً، أذكياء ومحاطون بجيش من التقنيين والخبراء وكتاب المحتوى، ورغم أنهم يشاركون الحمقى في السعي خلف المصلحة الشخصية والاستئثار بالشهرة وتحقيق الربح، إلا أنهم لا ينطلقون في ذلك من مشاريعهم الخاصة، وليس لديهم القرار فيما يقولونه أو يعملونه، بل يُناط هذا الأمر بمؤسسات توجههم وتفرض عليهم المحتوى الذي تريده، وغالباً ما تحاول هذه المؤسسات أن تكون خلف ستار يحجبها، كي يظهر هؤلاء المؤثرون وكأنهم ينطلقون من قناعاتهم الشخصية ومواقفهم الخاصة بهم.
مجال عمل هؤلاء المؤثرين هو السياسة دائماً، إما بشكل مباشر وصريح، أو بأشكال غير مباشرة ضمن الموضوعات الوسيطة، كالدين غالباً، أو الثقافة أو الفن أو المشكلات الاجتماعية أو الاقتصادية.. إلى آخره. لذلك لن ينجو من تأثيرهم أحد، ولأن مجال عملهم السياسة، فهم لا يكتفون بالتوجه لفئة بعينها، أو لشريحة محددة، أو لجماعة دون غيرها، بل للمجتمع ككل، يدرك هؤلاء تماماً أنك إذا لم توجه المجتمع إلى حيث تريد ويوافق أهدافك، فإنه سيتوجه إلى حيث ما لا تريد، لذلك يعمل هؤلاء دائماً على ألا يفلت المجتمع من قبضتهم.
لماذا الدين غالباً؟
في مجتمعاتنا العربية.. والذي لا يخفى على أحد منّا قلة نصيب غالبية أفرادها من الثقافة، أو سوء حظهم مع السياسة ومنعهم من المشاركة الحقيقية فيها، سنجد دائماً أن الدين هو المحرك الأساسي لهم، فهو ليس الملجأ الذي يلجأ إليه الضعيف والمغلوب على أمره فحسب، بل أيضاً لأن الوعي الديني هو المهيمن على التفكير في ظل غياب أشكال الوعي الأخرى، وهو المستودع الرئيس لقيم مجتمعاتنا والمرجع المعتمد في توجيه مواقفنا وإطلاق أحكامنا وتوخي صوابيتها، وليس هذا بالأمر السيئ في الظاهر، غير أن ما يجعله مشكلة حقاً هو استغلال قوة الدين وتأثيره لإخراجه عن غاياته الأساسية وقيمه الثابتة، وتوجيهه لخدمة السياسة بدل أن يكون هو الموجه لها والمتعالي عليها.
آفة مشكلاتنا المعاصرة هي تسييس الدين وأسلمة السياسة، كتبت عن هذا كثيراً ولن أخوض اليوم في الجدال الواسع حول الموقف السلبي من العلمانية وأثره في التدهور الحضاري الذي نعاني منه، وما زالت معاناتنا فيه تتفاقم دون أمل حقيقي بتغير الحال، خاصة مع تطور تقنيات الاتصال التي تكرس هذا التسييس من خلال مئات المحتويات المرئية والمكتوبة التي تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي يومياً، وأخطر ما في هذه المحتويات أنه لا يمكن منع التحكم فيها، ولا منع وصولها، بالإضافة إلى أن التوعية بمخاطرها ما زالت في أدنى مستوياتها، تمثلها مبادرات فردية تفتقر إلى كافة أشكال العمل المؤسسي والمنظم.
لتسييس الدين (أو أسلمة السياسة) في واقعنا العربي المعاصر وجهان اثنان، الأول هو التمذهب السياسي بناء على التمذهب الطائفي، والذي نعرف جميعنا شكليه الرئيسين حيث يصر كثيرون على أن تستند سياساتنا إلى إحدى العقيدتين الرئيستين في الإسلام، وهكذا يتم توجيه هاتين العقيدتين لكي تتناقضا في كل موقف سياسي، فإما أن تكون مع هذا الفريق أو ذاك، مع إيهامك أنك لا تستطيع أن تتخذ موقفاً وسطاً ولا أن تتخذ طريقاً ثالثاً، وهذا ما تفترضه بدعة تسييس الدين عندما تعطي السياسة بعداً إيمانياً وتربطها بصحة المعتقد أو فساده. أما الوجه الآخر لتسييس الدين فهو الإسلام السياسي، والذي لا يفرض عليك أن تختلف مع المختلف عنك في المذهب فحسب، بل يلزمك أن تختلف مع الآخرين ضمن المذهب الواحد، فإما أن تعتقد أن الإسلام دين ودولة، وأنه لا يمكن الفصل بينه وبين السياسة، وإما العكس. وفي كلا الحالتين.. أنت لن تنجو من تهمة التكفير والخروج من الدين. هكذا، وبدل أن يتوسل المسلمون قيم دينهم وتعاليمه لإصلاح السياسة، أفسدوا الدين ذاته بإدخاله فيها!
مثال على سبيل الذكر لا الحصر!
في مقطع فيديو قصير، لن يأخذ من وقتكم أيها الشبان العرب (وهو وقت ضائع غالباً) سوى بضع دقائق، يخرج شاب يماثلكم في العمر، ويشبهكم في الشكل والمظهر والكلام والاهتمامات، ليقول لكم صراحة، ودون أدنى مقدمات منطقية حقيقية، أو حتى مزيفة: (أعتز كوني سنياً)، وينتقد إيران بسبب مواقفها في هذا البلد العربي أو ذاك. هذا الشاب واحد من المؤثرين العرب “المهمين” على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، وله صلاحية الظهور على منابر إعلامية عدة، منها قنوات تلفزيونية أو منصات اجتماعية، ولا أدري لماذا يجب أن يُعد كون المرء سنياً مصدر اعتزاز، أو أن لا يكون غير ذلك مصدر اعتزاز لصاحبه؟ كيف تحولت المذاهب إلى موضوع للاعتزاز عند أصحابها ونعلم جميعاً أن ملايين البشر وُلدوا على أديان آبائهم، وأن أمر العقيدة في الغالب ليس إنجازاً شخصياً، وهو ليس شيئاً مؤثراً في ما يفيد الناس أو يضرهم بأية حال من الأحوال؟ فما هي موجبات الاعتزاز وما أسبابه؟
يخرج هذا الشاب، “صانع المحتوى” الناجح والمبدع بمعايير الشباب العرب، ليتناول مسألة اغتيال إسماعيل هنية، والتشييع الذي أُعدّ له في طهران حيث المدينة التي وقعت فيها حادثة الاغتيال، وهو تشييع شعبي ورسمي مهيب كما يؤكد، ولهذا السبب تنقلب الموازين مباشرة عند صانع المحتوى، فهو الآن يخجل من كونه سنياً، لأن هذا الاهتمام باغتيال هنية غاب عن جميع البلاد العربية “السنية”، مع ملاحظة أنه في كل مرة يقول فيها (البلاد العربية السنية) يضع بإشارة من أصابعه كلمة “السنية” بين القوسين الصغيرين، وجميعنا يعرف معنى هذه الحركة التي تعني أن المتحدث ينقل كلاماً لا يتبناه، بل يتحفظ حوله وهو غير مقتنع به، ولا يقصد هذا الشاب المؤثر أنه لا يجوز تصنيف بلد ما تصنيفاً دينياً، بل وكأنما يريد القول أن هذه البلاد ليست سنية تعتز بسنيتها.
ثم لماذا هذا التأكيد على عبارة (البلاد العربية السنية)؟ أليس وصفها بذلك هو مجرد تحصيل حاصل لا معنى له طالما أن جميع الحكومات العربية هي سنية إذا ما قبلنا بهذا التصنيف؟ المشكلة هنا إذن.. وهي تكريس هذه الصفة في ذهن المشاهد العربي وتحويل مفهوم الدولة عن معناه السياسي إلى معنى ديني مذهبي. حينها لن يكون “التكفير” الذي هو آفة كبرى بجميع مستوياته، محصوراً بالأفراد فحسب، بل وينطبق على الدول أيضاً، بما فيها من حكومات وقادة ومؤسسات.
كيف ينجح المؤثرون؟
لا يعير صانع المحتوى هذا، ومثله كثيرون، للموضوعية أية قيمة، بل يتلاعب بالحقائق كيفما يريد، فينقل حدثاً سياسياً بحتاً إلى المستوى الديني، ويخرجه من حسابات المواقف السياسية وصراعاتها والمصالح المتعلقة بها، ليوهم الآخرين بأنه صراع بين الحق والباطل، أو بين الإيمان والكفر، وذلك في سياق خطاب طائفي وتحريضي فج في مضمونه الحقيقي، لكنه مغلف بإثارة الانفعالات التي يصنفها بين الشعور بالفخر والاعتزاز من جهة، والشعور بالذنب والدونية من جهة أخرى. حتى حين يقول إنه يشعر بالغيرة الشديدة من القيادات الإيرانية لأنها شاركت في تشييع هنية بينما هو لم يشارك، فإنه في الحقيقة يدعي ذلك كي يشعر متابعوه بالخزي وجلد الذات، إذ أنه ليس ممنوعاً ولا عاجزاً عن السفر إلى إيران والمشاركة في التشييع لو كان صادقاً حقاً في ما يقول.
أمام هذا السيل الجارف من الكلمات المنتقاة بعناية لكي تخاطب الانفعالات وتغيّب العقول، لن ينتبه المتابعون إلى التناقض الذي وقع فيه صانع المحتوى، متعمداً وليس نتيجة السهو أو الخطأ، حين اتهم سياسات إيران ضد الشعوب العربية وتورطها في دمائهم (وهذا بحسب تعبيره) من جهة، ثم يقوم بتزكيتها ويرفع قدرها من جهة أخرى، ويجعل حكومتها أفضل من الحكومات العربية، فقط لأن تلك الأخيرة لم تولِ حادثة الاغتيال الاهتمام الذي يرغب به صاحبنا، ولكن ما ينبغي معرفته أن الأمر أبعد من ذلك بكثير، ولا يتوقف حول اغتيال شخص، أو حول الاختلاف معه في مواقفه السياسية وتحالفاته التي اختارها، بل هو جزء من صراع سياسي إقليمي حول القضية الفلسطينية، حيث يريد الإيرانيون وبعض حلفاؤهم أن يرسخوا في وعي الشعوب العربية أنهم وحدهم المعنيون بالدفاع عن فلسطين والفلسطينيين، ومن ثم فستكون جميع أنشطتهم السياسية في المنطقة مشروعة، وسيكون الوقوف ضدها، أو التصدي لها، من أي جهة، هو تخل عن فلسطين وأهلها، وخيانة للدين.. وربما العروبة أيضاً.
ما الذي تصنعه الفوضى للمؤثرين؟
قد يكون من السهل نسبياً في الأحوال العادية والظروف الطبيعية، أن تكتشف مجموعة واسعة من الجمهور ما ينطوي عليه هذا الكلام من لغط وتناقض واضح، ولذلك عادة ما تنخفض أصوات هؤلاء المؤثرين في فترات الاستقرار والهدوء، لتعلو بالمقابل في فترات الفوضى واشتداد الصراع. فمثلاً.. كيف سيستطيع العقل إجراء المحاكمات المنطقية السليمة في ظل ظروف استثنائية ومؤلمة كالتي يعيشها الفلسطينيون اليوم حيث تتعرض غزة للتدمير بين ساعة وأخرى، ويلقى الكثير من أهلها أقسى حالات الموت أو الجوع أو التهجير والنزوح؟ في مثل هذه الأوضاع، ومع التشويش الحاصل في الرؤية السياسية لتفسير ما يحدث على الأرض، ينشط أمثال هؤلاء المؤثرين مستغلين اختلاط مشاعر الغضب والعجز والإحباط لدى المتلقين، كي يوهموهم أن القتال والمواجهة دون استعداد، وأن سفك الدماء مقابل الدماء، هو الحل، أما الهدف الأبعد فهو إيهام الشعوب أن عدم اختيار دولهم وحكوماتهم للقتال والمواجهة هو تراخ عن نصرة الفلسطينيين وتنازل عن حقوقهم.
إن الفوضى إذن، بكافة أشكالها، حرباً كانت أو فساداً أو صراعاً طائفياً أو عرقياً، هي البيئة الأمثل لهؤلاء المؤثرين، إذ في هكذا بيئة يمكنهم مخاطبة أعمق مخاوف النفس البشرية واستثارة ما تنطوي عليه من انفعالات هدامة ودوافع تدميرية وعنيفة، خاصة وأن هذه الأعماق (وكما يصفها علماء النفس) مساحات مجهولة ولا واعية، ولا يمكن لأشكال الوعي التقليدي ضبطها أو التحكم فيها أو كبت انفعالاتها وهيجانها. هنا وفي حالات استثارة مشاعر الخوف أو الغضب أو الذنب، تصبح برمجة العقول وتوجيهها أمراً سهلاً، ويصبح المكلَفون بهذه المهمة أعلاماً ومشاهير يتناقل العامة آراءهم وأفكارهم وكلماتهم.. ويسمونهم “المؤثرون”.
ورغم ذلك.. صحيح أن هؤلاء المؤثرين أذكياء ومحاطون بجيش من الفنيين وكتاب المحتوى وداعمين ماليين، لكن ليست هذه هي نقطة القوة الأساسية التي يعتمدون عليها، بل أعتقد أن ضعف السردية المقابلة وعدم الوثوق بها لأسباب يطول شرحها هنا، تعطي المؤثرين من هذا النوع مساحة ينفردون بها لنشر خطابهم وتمكين قبوله في المجتمع، ليس بسبب توهم الجمهور المستهدف بجدية مضمونه، وإنما بوصفه الخطاب الوحيد الذي ينجح في استثارة مشاعرهم ودغدغة آمالهم وتطلعاتهم.
منهج قديم وخطابيون جدد
ابن رشد.. فيلسوف الأندلس المسلم العقلاني الشهير، ورغم ما حظي به من مكانة رفيعة في ظل دولته، عانى كما نعاني اليوم من غلبة صوت دعاة الجهل والتشدد والعنف، ممن اتخذوا الدين وسيلة لحفظ مصالحهم السياسية، ولزيادة مكتسباتهم في السلطة والمنصب، أو السيطرة على الرأي العام، ولم يكن صراعه معهم عادلاً أو منصفاً باية حال، إذ مقابل سعيه كي يفتح عيونهم على الحقيقة التي ظنّ أنهم يجهلونها، سعوا هم بالمقابل إلى التخلص منه عبر اتهامه التهمة الأشهر في التاريخ: الكفر أو الزندقة وإفساد العامة! بقي ابن رشد مصراً على سلميته ودفاعه عن الحقيقة بالحجة والحوار والمنطق، لا بعنف السيف أو عنف الخطاب، ولكي يبين أن خصومه ليسوا أهل الحقيقة، وضّح ما قد ينطوي عليه الخطاب من خديعة وتزييف للحق حين يُساء استخدامه، سواء عن قصد أو غير قصد، وصنّف أصحاب الخطاب في ثلاث فئات: هم الخطابيون الذين هم الأبعد عن التأويل العقلي وأدلته وبراهينه، وهم أيضاً المنشغلون بظاهر الكلام ومتشابهه، ومن ثم فهم العامة الأبعد عن الحقيقة، ثم الجدليون الذين عرفوا بعض المنطق واستخدموه لنصرة آرائهم في الظاهر بغض النظر عن الحقيقة، وأخيراً البرهانيون الذين هم أهل العقل والأولى بامتلاك الحكمة لمعرفتهم بالتأويل وإخلاصهم للحق بلا غاية أو مصلحة. أفليس المؤثرون اليوم هم خطابيو عصرنا مقارنة بعصر ابن رشد.. فيلسوف العقلانية العربية! أوليس عصرنا أيضاً شبيهاً بعصره حين كانت العقلانية العربية تلفظ آخر أنفاسها؟