بقلم: فاروق يوسف- النهار العربي
الشرق اليوم– أعرف أن نور زهير أُطلق سراحه بكفالة. الرجل صار مشهوراً في العراق بعدما كان نكرة. لقد ارتبط اسمه بما سُمي “سرقة القرن” وهي تسمية تنطوي على مغالاة هي من عادة العراقيين. فعملية الاحتيال التي لم يكن الرجل إلا واجهة واحدة من واجهاتها الكثيرة كانت قد أسفرت عن سرقة ثمانية مليارات دولار من أموال الضرائب، كان نور زهير قد أعاد مليونين منها لكي يخرج من السجن بكفالة ويذهب لأداء فريضة الحج. ما أعاده زهير هو مبلغ تافه مقارنة بالمبلغ الأصلي، ولكن حكمه سيكون مخففاً إذا ما أظهر القضاء نزاهته في الكشف عن الرؤوس التي تقف وراء الجريمة. حتى هيئة النزاهة وقفت عند الخط الأحمر حين اكتفت بإعلان أسماء المشتركين مع نور زهير الذين لا يزال بعضهم هارباً. سيُترك الكثير منهم من غير أن يتم استدعاؤهم من خلال الإنتربول، لا لشيء إلا لأن حضورهم سيكون سبباً في الكشف عن الرؤوس الكبيرة وإدانتها. يُقال إن نور زهير كان قد هدد بالكشف عمّن يقف وراءه فأطلقوا سراحه. ذلك أمر غير صحيح. الصحيح هناك قوى سياسية ضغطت على القضاء من أجل الإفراج عنه. فقد يكون الرجل جزءاً من شبكة واسعة تعرف الأرقام السرية للودائع المالية التي وُضعت في المصارف العالمية. حماية نور زهير هي جزء من عملية لم تنته بعد. ضحى اللصوص بمليوني دولار من أجل أن يظهر رئيس الحكومة العراقية في مشهد هزلي يؤكد تمكنهم من القضاء والحكومة.
السرقة ليست جريمة
من المؤكد أن حكاية نجاح الشمري، وهو وزير دفاع عراقي سابق، ستكون مسلية بطريقة مبتذلة مقارنة بحكايات أقرانه من الوزراء الذين هربوا بمليارات الدولارات ودانهم القضاء العراقي، غير أن أحداً منهم لم يُعاقب بل تُركوا ينعمون بالأموال المنهوبة في دول اللجوء التي منحتهم في أوقات سابقة جنسياتها. حكاية الشمري تبدأ من إلقاء القبض عليه في مطار إيرلندا في استكهولهم بتهمة التحايل على سلطات الرعاية الاجتماعية حيث كان الرجل قد استمر في الحصول على أموال المساعدات، إضافة إلى الأموال التي يحصل عليها أطفاله منحة شهرية رغم أنه كان قد تقلد منصباً رفيعاً في الحكومة العراقية. تلك حكاية تكررت أحداثها في غير دولة من دول اللجوء. سبق للصحف الدنماركية أن نشرت على صفحاتها الأولى أخبار فضيحة شبيهة كان بطلها علي العلاق، وهو رجل معمم كان يشغل في حينها منصب مستشار لرئيس الوزراء. شيء من هذا القبيل يحدث كل يوم من غير أن تتخذ الحكومات العراقية المتعاقبة أي إجراء في حق المتسببين به. وهو ما يشير إلى أن السرقة من وجهة نظر النظام العراقي الجديد ليست جريمة يعاقب عليها القانون. لذلك فإن الكشف عما سُمي “سرقة القرن” لم يكن ليحدث لولا أن هناك نوعاً من المزايدة السياسية، كان الهدف منها تلويث سمعة طرف لحساب أطراف أخرى. غير أن تصفية الحسابات ما كان مسموحاً لها أن تتجاوز حدود التشهير. ذلك لأن مديري المصارف الوهمية الذين سطوا على أموال الائتمانات الضريبية معروفون، كما أن الثمانية مليارات دولار التي سطوا عليها قد أودعت في مصارف دول ترتبط بعلاقات جيدة مع العراق.
مشهد يؤكد هزيمة القانون
كل مديري المصارف الوهمية الذين ساهموا في سرقة القرن من خلال شيكات مزورة تم تمريرها من خلال شبكة معقدة داخل الدولة لا يملكون قدرة على الضغط على القضاء. فهم مجرد أدوات تُستعمل لمرة واحدة. لم يكونوا بالضرورة يعرفون أن ما يقومون به سيُستعمل في التسقيط السياسي، غير أنهم كانوا على دراية بأن عمليتهم ستكون غطاءً لما يجري في سوق العملة. ذلك لأن البنك المركزي العراقي يبيع مئات الملايين يومياً لمصارف وشركات صرافة، الجزء الأكبر منها وهمي. كانت سرقة القرن مجالاً تفاعلياً نجحت قوى سياسية في حمايته فيما كانت تمرر عملياتها في سرقة العملة في ظل قانون أعمى. لقد مرت مياه كثيرة تحت الجسور فيما كان العراقيون منشغلين بـ”سرقة القرن” ونور زهير. حتى أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ظهر في مؤتمر صحافي وإلى جانبه في المسرح أكداس من الأموال هي عبارة عن الأموال التي أعادها زهير. كان الرجل منتشياً بانتصاره غير أنها كانت واحدة من لحظات هزيمة القانون. لقد كانت تلك الأموال التي استعرضها السوداني مجرد فتات من الأموال المنهوبة.
اللصوص وغياب العقاب
ما كان في إمكان مديري مصارف وهمية أن يسرقوا ثمانية مليارات دولار من أموال الدولة لو لم تكن لديهم تسهيلات داخل الأجهزة المصرفية. وإذا ما عرفنا أن عملية السرقة تمت خلال نصف شهر، فإن ذلك الزمن القياسي يشير إلى أن كل شيء كان مبيتاً. لقد تمت سرقة الأموال كما تم تهريبها إلى خارج العراق في الوقت الذي هرب فيه اللصوص من غير أن تنتبه السلطات الأمنية. تلك واحدة من معجزات العراق الجديد. أما عجز السلطات العراقية عن استرداد أموالها وهي تعرف أين يقيم اللصوص وجنسياتهم وأين أودعوا الأموال، فهو أمر يدعو إلى الدهشة ويكشف عن حقيقة أن هناك حلقات كثيرة في الدولة متواطئة في السرقة. ذلك ما يعيدنا إلى فكرة أن تلك الجريمة وقعت في سياق منظم وفي ظل حماية مضمونة ولم تكن سابقة لكي يخشى مرتكبوها العقاب. لقد هرب الكثيرون بالمليارات وهم يتمتعون الآن بحياة آمنة في الأوطان البديلة. تلك واقعة تتكرر، أما الفضيحة فإنه لا يُعلن عنها إلا إذا شعرت أطراف سياسية مهيمنة أن تلك الفضيحة تخدم مصالحها. لذلك فإن الإعلان عن “سرقة القرن” وإن كان نوعاً من المضاربة السياسية، فهو مجرد وسيلة لتعطيل المطالبات الشعبية بالخدمات الأساسية التي طُويت صفحتها بعد إجهاض الانتفاضة الشعبية في تشرين الأول (أكتوبر) 2019.