بقلم: أسعد عبود- النهار العربي
الشرق اليوم– لم يكن لاستقالة محمد جواد ظريف من منصبه نائباً للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان للشؤون الاستراتيجية وقع المفاجأة. المرحلة السياسية والأمنية التي تمرّ فيها البلاد لا تتناسب مع الأفكار التي ينادي بها الرجل، الذي عُرف عنه تأييده الانفتاح على الغرب ولو على حساب النفوذ الواسع لطهران في الشرق الأوسط.
بعد ساعات من أداء بزشكيان اليمين، وُضع الرئيس الإصلاحي الأول الذي يُنتخب منذ انتخاب محمد خاتمي في عام 1997، أمام أقسى اختبار لسياسة إيران الخارجية، عندما اغتالت إسرائيل رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنية الذي كان مدعواً إلى حفل التنصيب في طهران.
إيران التي اعتبرت أن اغتيال أحد ضيوفها انتهاك خطير لسيادتها، هدّدت برد “قاس” على إسرائيل، ما جعل التوتر الإقليمي بنداً رئيسياً على جدول أعمال القيادة الإيرانية. وعلى الرغم من أن بزشكيان نفسه نال تأييد الناخبين على أساس حمله برنامجاً يعد بإعادة الانفتاح على الغرب، فإن حادث الاغتيال أملى أجندة طارئة على برنامجه.
ليست أجواء الاحتقان الإقليمي وحدها هي التي جعلت ظريف يرى أن قدرته على الاضطلاع بمسؤولياته ستكون أمراً غير قابل للتطبيق، وإنما أيضاً التوازنات الداخلية السائدة التي لن تدع مجالاً لوزير الخارجية السابق أن يضع رؤيته موضع التنفيذ، وتالياً فضَّل الانسحاب باكراً.
غالباً ما يتعرّض ظريف لهجمات من التيار المتشدّد في إيران. يأخذ هؤلاء عليه حماسته للاتفاق النووي مع القوى الدولية في عام 2015، ويعتبرون أن طهران قدّمت في هذا الاتفاق تنازلات كثيرة، وأنه ما كان يجب الوثوق بالولايات المتحدة، والدليل على ذلك ما أقدم عليه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في عام 2018 من سحب واشنطن من الاتفاق والعودة إلى فرض “العقوبات القصوى” على إيران.
طبعاً، كانت فلسفة ظريف قائمة على أن السبيل الوحيد لإنعاش الاقتصاد الإيراني يكمن في إبرام الاتفاق النووي مع مجموعة دول “5+1″، ما أتاح فعلاً لمجلس الأمن رفع العقوبات الأممية عن إيران على الأقل، بينما فعلياً كانت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما قد تريثت في رفع كامل العقوبات الآحادية التي فرضتها على طهران، ومنها ما لا يتعلق بالبرنامج النووي، إنما بالأنشطة الإقليمية وبالبرنامج الصاروخي البالستي.
وما أن مزّق ترامب الاتفاق وفرض عقوبات جديدة على إيران، حتى انسحبت الشركات الأوروبية التي كانت تعتزم توظيف استثمارات فيها. وهذا ما حمل طهران على تعزيز علاقاتها مع روسيا والصين، وصولاً إلى إبرام اتفاقات استراتيجية مع البلدين. ومعظم صادرات النفط الإيرانية تذهب اليوم إلى الصين بأسعار تفضيلية. وهناك شركات صينية تحاذر الاستثمار في السوق الإيرانية خشية تعرّضها للعقوبات الأميركية.
هذه هي المعضلة التي يواجهها الآن بزشكيان. وهو يعلم جيداً أن الاقتصاد الإيراني لن يتعافى في ظل العقوبات الأميركية، لذا يدعو إلى معاودة المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة.
وظريف ليس بعيداً عن هذا التفكير، وهو عمل مستشاراً في الحملة الانتخابية لبزشكيان. ودوره هذا جعله محل تهجّم المتشدّدين عليه، الذين أخذوا عليه من بين أمور كثيرة أن أولاده يحملون الجنسية الأميركية. أما هو فرأى أن المتشدّدين الذين يسيطرون على كل مفاصل السلطة، من مجلس الشورى إلى القضاء ومجلس الخبراء والحرس الثوري، لن يتيحوا لبزشكيان تنفيذ الكثير من الوعود التي أطلقها في حملته الانتخابية، وسيفرضون عليه حكومة مطعمة بوزراء من حكومة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي.
ويستفيد المتشدّدون من التوتر الإقليمي والحشد العسكري الأميركي الواسع والتهديدات التي يطلقها مسؤولون إسرائيليون وأميركيون، مغبة إقدام طهران على ردّ عسكري واسع على إسرائيل، تحت طائلة الردّ على الردّ والذهاب ربما إلى حرب شاملة.
هذه الأجواء التصعيدية فرضت على بزشكيان أن يكون حذراً في استفزاز المتشدّدين أو الدخول في مواجهة معهم في ظل هذه الظروف. وعليه، وجد ظريف أنه في هذه الحال سيشكّل وجوده عبئاً على بزشكيان ويعرّضه لمزيد من الهجمات من التيار المتشدّد.
هناك تيار واسع في إيران يفضّل الالتفات إلى الأزمة الاقتصادية المتمادية على خوض المزيد من المغامرات الإقليمية، التي ترتد سلباً على الاقتصاد وتزيد من عزلة طهران دولياً.
يرى ظريف، وغيره من النخب الإيرانية، أن الاقتصاد يجب أن يحظى بالأولوية، لأن تدهور الأوضاع المعيشية يزيد الهوة بين الناس العاديين والنظام، وهذا لن يصبّ في مصلحة النظام ولا مصلحة البلاد على المدى البعيد.