بقلم: حسن إسميك- النهار العربي
الشرق اليوم– “من المتوقع أن يركز جو بايدن على السياسة الخارجية ليصنع لنفسه إرثاً” هذا عنوان لمقال نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، تتحدث فيه عن التأثير الكبير الذي يمكن أن يصنعه بايدن في الأشهر الأخيرة من ولايته، بعد انسحابه من الانتخابات وتحرره من قيودها.. كلام جميل. لكن، أليس يحمل الكثير من التفاؤل غير المبرر، أو لنقل غير المبني على وقائع ومعطيات على أرض الواقع؟
يعيش العالم اليوم حالة غريبة –لا أظنها مسبوقة– من العطالة، ورغم أن حروباً كبرى تجري في ساحات مختلفة على الخريطة العالمية، إلا أن تلك الحروب، وعلى ضخامتها وكثرة ضحاياها، باتت مألوفة ومعتادة عند الجميع، نسمع عنها ونقرأ ونتابع كل يوم، بشكل معتاد ومكرر، فتحولت من “حدث” فارق يشغل الجميع، إلى مجرد “خبر” عابر لا أكثر!
الجميع منتظرون، نهاية الحرب، نهاية الأزمة، وصول رئيس جديد، رحيل رئيس قديم، صعود اليمين، صعود اليسار، رفع عقوبات، تطبيق عقوبات، لقاءات واتصالات سرية، مفاوضات واتفاقات تفشل في اللحظات الأخيرة… ولا يكاد أحد يأتي بأي فعل ينهي حال الانتظار هذه، ويزيل ولو قليلاً من الغموض واللايقين اللذَين يكتنفان معظم الملفات السياسية الكبرى في العالم. لقد تحول العالم إلى غرفة انتظار كبيرة، لكننا لا نعرف كم من الوقت سننتظر بعد، والأسوأ أننا لا نعرف بالتحديد أي شي ننتظره أو ينتظرنا.
ليس الانتظار بحدِّ ذاته أمراً جديداً على البشرية، بل هو قديم بقدمها، ولطالما تحدثت عنه الفلسفات، وتبنته وارتكزت عليه الديانات، وكُتبت فيه وبسببه الأشعار والأغاني والقصص والمسرحيات. يملأ الانتظار جزءاً كبيراً من حياتنا، أدركنا ذلك أم لم ندرك، فنحن في كل لحظة تقريباً بانتظار أمر ما: بدءاً من انتظار إشارة المرور لتصير خضراء، وصولاً إلى انتظار أولادنا ليكبروا، مروراً بانتظارات لا تعد ولا تحصى.
كان الألماني مارتن هايدغر من أشهر الفلاسفة المعاصرين الذين تحدثوا عن الانتظار، لم يكن الانتظار بحد ذاته موضوعاً مستقلاً في فلسفته، لكنه كان حاضراً في ثنايا أفكاره التي حملت مهمة تجديد الفلسفة وإصلاحها لتكون أكثر اتصالاً بحياتنا، وذلك بإعادتها إلى موضوعها الأصيل والأثير، أي الوجود، بعدما انشغلت عنه بالتفكير في الموجودات وأهملت الأرومة الكبرى التي تجمعها. ويرى هايدغر أن إدراك معنى وجودنا الذي يمنح الذات أصالتها ومن ثم يبني علاقتها بالعالم ليس بالأمر السهل مواجهته، وذلك لعجز الإنسان عن الانتظار الذي يستحقه هذا الإدراك، خصوصاً وأن هذا الانتظار الذي يمكن من خلاله اكتشاف الحقيقة الوجودية الأصيلة لا يكون موجهاً نحو غاية محددة ومتوقعة مسبقاً، بل الغاية هي الطريق ذاته في مسيرة بحث الإنسان عن معنى وجوده.. وتلك هي المهمة التي أهملتها الفلسفة.
ينبهنا هايدغر إلى أنه لا شيء يملأ حياتنا بقدر ما يملؤها الانتظار، ولا يمرُّ يوم علينا دون أن نختبر هذه الحالة أو نقوم بهذا الفعل، على اختلاف مستوياته ومدته طبعاً، حتى يبدو سرد حياتنا أحياناً وكأنه شبكة منسوجة بكثافة من “الأشياء التي لم تتحقق بعد”. فالحاضر يتضخم ويفرغ في الوقت نفسه من محتواه بفعل المستقبل الذي يشير إليه، والذي يعطيه معنى، إلى جانب الماضي. لا يصبح الحاضر مجرد لحظة غير مرغوبة ولا أهمية لها، إلا عندما يكون الماضي صعباً وسيئاً ومرهقاً، وهذا ما يجعل الإنسان ينتظر تشكل المستقبل الآتي، دون أن يدرك أن الانتظار في الحقيقة هو من يعيد تشكيلنا.
والانتظار فعلٌ أو تجربة عالمية، يشترك فيها الناس كلهم ودون استثناء، على اختلاف جنسياتهم وانتماءاتهم السياسية والطبقية والدينية وغير ذلك.. لكن تأثيرات هذه التجربة تختلف كثيراً من شخص لآخر أولاً، وبحسب السياق ثانياً، وعندما تنسحب من طابعها الفردي إلى مستوى جماعي أعم وأشمل، ثالثاً.
نشترك في الانتظار ونختلف بتعاطينا معه
ولئن كان الانتظار فعلاً مشتركاً وتجربة يخوضها الجميع، إلا أن للسياقات الثقافية والمجتمعية تأثيراً وازناً على هذه التجربة وكيفية تعامل الأفراد معها ومع بعضهم خلالها، وهذا مرتبط بالدرجة الأولى مع اختلاف تعاطي الثقافات العالمية العديدة مع الوقت، فالثقافات ذات المفهوم الخطي للوقت كالثقافات الغربية المعاصرة، تتعامل مع الانتظار وكأنه خسارة، فالزمن يتدفق باتجاه واحد لا ينعكس أبداً، ولا يمكن بالتالي تعويض ما ضاع منه، على عكس ثقافات بعض الشعوب “الأصلية” ذات المنظور الدوري للزمن والتي قد ترى الانتظار كجزء طبيعي من عملية مستمرة.
يرتبط الأمر أيضاً بمستوى انضباط ودقة شعب ما من الشعوب، فأن تتأخر على موعد مع صديقك أو شريكك الألماني، ليس كأن تتأخر عن موعدك مع آخر عربي أو لاتيني، فالأخير سيتوقع غالباً تأخرك، وغالباً ما سيفاجئه حضورك في الوقت المحدد!
أضف إلى ذلك أن القيم والمعتقدات الثقافية تؤدي دوراً كبيراً للغاية، ففي ثقافتنا الشرقية، عندما يرتبط الانتظار بالمثابرة وضبط النفس والتحمل نسميه “صبراً”، والصبر كما يعرف الجميع من أكثر الصفات المحمودة عندنا، والتي يحث عليها الدين والمجتمع والمنظومة الأخلاقية كلها. وليس هذا الأمر حكراً علينا كعرب ومسلمين، فالانتظار سمة أساسية في الأديان السماوية كلها، والمسيحية واليهودية على حد سواء في حال من الانتظار المستمر، الأولى تنتظر عودة المسيح المخلص والثانية بدورها تنتظر مجيء مسيحها، أما في الإسلام فالمُنتظَرون كُثُر، أشهرهم عيسى بن مريم بطبيعة الحال، وقبله المهدي المُنتظر، ناهيك عن طوائف متعددة تنتظر أئمة غائبين أو مغيبين.
حتى الديانات غير السماوية، تقيم للانتظار وللصبر قيمة كبرى، وتعده من الفضائل الأساسية، ففي الفلسفة الهندوسية، الصبر هو التحمل البهيج للظروف الصعبة وعواقب أفعال المرء (الكارما)، والانتظار هو فضيلة حب العملية دون الاعتماد على النتيجة، ودون تعلق بتوقعاتنا حول كيف ستكون الأمور. وبحسب أدبياتهم الدينية عندما يعمل الإنسان بحب دون أن يتوقع مكافأة في المستقبل، فسيحصل على مكافأته في الحاضر.
الانتظار بين الفرد والجماعة
كل التشابه أو الاختلاف في التعاطي العالمي مع الانتظار، هو غالباً على الصعيد الفردي، فـ “الانتظار الجمعي” اللاديني لم يحظ إلى الآن بالقدر الكافي من الدراسة، ربما لأنه –وكما أشرت في بداية المقال– أمر حديث الوجود أو ربما لم يكن ملحوظاً من قبل بنفس القدر الذي هو عليه اليوم. والانتظار الفردي مختلف كثيراً عن الانتظار الجمعي، فالأول ينطوي بطبيعة الحال على التوقع، والذي عادة ما يثير مشاعر مختلفة تتراوح بين الشعور الجميل بالإثارة وصولاً إلى القلق المعطِّل والمكبِّل، كما يحفز استجابات عاطفية متنوعة من الملل والإحباط، مروراً بالأمل، ووصولاً –ربما– إلى التسليم الذي يضمر الاستسلام. كذلك على المقلب الآخر، قد يختبر الانتظار القدرة على تحمل التأخير دون انزعاج أو إزعاج والاستفادة من فترته للتأمل أو التعلم أو التطور الشخصي، لكنه قد يشوه إحساس المرء بالوقت، إذ يجعله يبدو أطول أو أقصر مما هو عليه في الواقع.
أما على مستوى الجماعة فتصير ديناميات الانتظار أكثر تعقيداً، فقد يبدو الانتظار في بداياته عاملاً جامعاً موحداً، خاصة عندما يتقاسم أفراد الجماعة كلهم هدفاً واحداً أو غرضاً مشتركاً، ويرتبط هذا بقيادة الجماعة المعنية، وكيفية تعاملها مع مدة الانتظار، وما تتخذه من قرارات حول قضاء هذه المدة، ومدى فاعليتها وتأثيرها على الروح المعنوية وعلى الإنتاجية الجمعية. يحضر الانتظار أيضاً بشكل فاعل في اليوتوبيات التي صنعها البشر حول مستقبلهم، أو مستقبل الأجيال التي تليهم، مكتفين بالتنظير لملامح مشوشة وضبابية عن عصر آت يقوم فيه العدل ويعم السلام وينتصر الخير وينهزم الشر.
وإذا كان الجانبان السلبي والإيجابي للانتظار على المستوى الفردي متكافئين في احتمال الوقوع، فإن الجانب السلبي للانتظار الجمعي يفوق بأشواط الجانب الإيجابي، إذ يترافق عموماً بحالات من الركود الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية وعدم اليقين الجيوسياسي، أما ما سميتها في البداية “عطالة سياسية” فهي لا تنتج عن كل ما سبق فحسب، بل وتعيد إنتاجه في سياق الزمن المبهم الذي يلتهمه الانتظار.
غودو… المخلّص الذي لا يأتي
عند الحديث عن أي انتظار لا بد من المرور على “المُنتظَر” الأشهر في الأدب، غودو، كيف لا وقد تحولت حياتنا إلى ما يشبه أحداث تلك المسرحية الشهيرة التي تروي قصة رجلين أحوالهما سيئة، يلتقيان تحت شجرة عارية من الأوراق ويتناقشان في مجموعة من القضايا غير المهمة ويتحدثان عن مشاكلهما، وفي خضم الحديث يفهم المشاهدون أن هذين الرجلين ينتظران شخصاً يدعى غودو سيأتي ليحلّ مشاكلهما ويخلصهما من البؤس الذي يعيشانه.
تجسّد مسرحية “في انتظار غودو” الحالة التي يعيشها معظم البشر الآن، ليس فقط على خشبة المسرح بل أيضاً من خلال الجمهور الذي يشاهد المسرحية –والتي لا أحداث مهمة أو ملفتة فيها وحواراتها تكاد تكون تافهة– وينتظر ظهور غودو، تماماً مثل أبطالها!
يرمز غودو في الواقع للشيء الذي ننتظر حدوثه، كمعجزة ما تغيّر حياتنا وظروفها، النقاش حول حصولها من عدمه هو ما نبذل فيه وقتنا وهو “حاضرٌ” دائماً وغائب في الوقت نفسه. إحدى النظريات التي ظهرت في مرحلة شهرة المسرحية تقول بأنها جسدت حال الشعوب الأوروبية خلال الحرب بالعالمية الثانية، وقد تنسحب هذه النظرية أو وجهة النظر بتعبير أدق، على حالنا اليوم كشعوب في منطقة الشرق الأوسط، أو ربما على معظم شعوب العالم اليوم، ننتظر “غودو” الذي لا يأتي ونحن نعيش أزمة تلو أزمة وحرباً تلو الأخرى تغذينا وعودٌ لن تتحقق غالباً، وأمل مبني معظمه على وهم، لنظلَّ غارقين في انتظار لا نهاية له.
ما يجعلني أطابق بين أحداث المسرحية وأحوالنا هو مشهد يحدث مع اقتراب نهاية المسرحية، إذ يقرر الرجلان أخيراً أن يشنقا نفسيهما مع تضاؤل الأمل بظهور غودو، لكنّ الحزام الذي يحاولان استخدامه يكون ضعيفاً وينقطع، فيتفقان على إحضار حبل متين في اليوم الثاني إذا لم يأت غودو. ورغم أن اليوم التالي يحلّ وينتهي دون ظهور “المخلّص” لا يفعل الرجلان شيئاً يذكر، وببساطة يتابعان الانتظار.
فكرة المخلّص هذه، وكما أشرت منذ قليل، تحضر في الثقافة البشرية بأشكال متعددة، وقد نجحت السياسة في توظيفها لصالحها في أزمان مختلفة وبقع جغرافية متعددة، لاسيما عندما يسود التخلف وقلة الوعي والمعرفة، وغالباً ما ترتبط بها، وبشدة، صورة “القائد” الذي سينقذ الجماهير “يوماً ما” ويحررها ويبني لها أوطاناً مزدهرة، والتي سوقت لها الأيديولوجيات القومية، أو الدينية، لدى بعض الجماعات.
في معظم الأحيان تستخدم الحكومات (قمعية كانت أم ديمقراطية) تلك الاستراتيجية كنوع من الإلهاء عن أمور أخرى أكثر أهمية، إشغال الناس في تلبية احتياجاتهم الأساسية وإيقافهم في طوابير تسرق وقتهم وحياتهم، وتجعلهم ينسون ما لا تريد منهم حكوماتهم التركيز عليه فعلاً.
أما الخطر الجدي فيكمن في تحويل تلك السياسة من مرحلة مؤقتة ضرورية لتنفيذ شيء ما، إلى سياسة ممنهجة وأسلوب حكم دائم هدفه الحفاظ على مكاسب شخصية بعدم تغيير أوضاع الناس وتحسين حياتهم، خوفاً من ازدياد وعيهم، بمعنى آخر ضخ “المخدرات” في دمهم بشكل دائم وأساليب متجددة، تفقدهم القدرة على المحاسبة.
لقد عبر الكاتب والناقد الأدبي الفرنسي رولان بارت عن ذلك بالقول: «إن إبقاء الآخرين في الانتظار هو من الامتيازات القديمة للسلطة». فلا يمكن أن يبقيك في الانتظار إلا من له عليك سلطة، والسؤال هنا ماذا يمكنه أن يفعل بهذه السلطة، وماذا يمكنك أن تفعل وأنت منتظر؟
ما بين الانتظار والاستسلام..
إذا سلمنا جدلاً بأن الانتظار ليس شرّاً كله، وأنه يتضمن الصبر المحمود في جميع الثقافات والأديان. يبقى علينا الانتباه وعدم الخلط بينه وبين وهم الانتظار الذي هو في جوهره استسلام للأمر الواقع ولمعرفة أن لا تغيير قادم، بل الانسياق لوهم يعيشه الجميع ويتصالحون معه لأن ذلك أسهل وأقل مسؤولية. فالاعتماد على مجهول سيأتي وينقذنا مما نحن فيه أسهل بكثير من الإتيان بفعل حقيقي في سبيل ذلك التغيير.
وإذا أردنا الحديث عن بلادنا على وجه الخصوص، فنحن نعيش في المنطقة العربية أو الشرق أوسطية على أمل حصول المعجزات، على أمل نصر مؤزر سنبدأ بعده بتحسين أوضاعنا وأحوالنا. لا شك بأن أحوالنا ستتحسن بعد الانتصار، لكن هل يعني ذلك أن نبقى منتظرين حصوله ونحن مكتوفي الأيدي؟ كم مرة جاء من يبيعنا وهم النصر ووهم العمل على تحقيقه ونحن بين مد وجزر، وحروب تبعدنا عنه آلاف الأميال ثم وعود زائفة أخرى ومفاوضات لا أحد يعرف ما يجري فيها حقاً، ثم نكسة أخرى، وهكذا على امتداد عقود نظلُّ بانتظار المعجزة التي ستصل بنا إلى المستقبل المأمول.
عندما ما يكون الاضطرار إلى الانتظار خارجاً عن سيطرتنا أو إرادتنا، فيجب أن نعلم حينها أن استجابتنا أو كيفية انتظارنا هي وحدها التي تهم.. فكيف ينتظر العالم اليوم، وكيف ننتظر نحن العرب بالتحديد؟ إذا كان الانتظار قدراً محتوماً علينا فلا يد لنا في ذلك بالتأكيد، أما حين يتحول لعمل نعمله بملء إرادتنا فيجب أن نتقنه. كيف إذن يكون إتقان حرفة الانتظار؟