بقلم: أحمد محمود عجاج- صحيفة الشرق الأوسط
الشرق اليوم- بعد اغتيال زعيم حركة «حماس» إسماعيل هنية في العاصمة طهران، ومعه اغتيالات بالجملة لأنصار إيران في العراق ولبنان، توقع كثيرون تساقط الصواريخ على تل أبيب بعدما دنّست إسرائيل شرف إيران؛ وفق توصيف زعيم «حزب الله» في لبنان. لكن بالتحليل الدقيق يمكن تصور سقوط الصواريخ، لكن ليس في مواجهة شاملة… وهذا يعود إلى طبيعة النظام في إيران، وطبيعة الدولة الإسرائيلية، وعلاقة كل منهما بالمحيطين الإقليمي والدولي؛ فممارسات الماضي تثبت، بوصفها معياراً موضوعياً، أن أولوية إيران ليست إسرائيل، وأن أولوية إسرائيل ليست إيران. فأولوية إسرائيل إزالة حق الفلسطينيين في دولة، وأولوية إيران تزَعّم المنطقة تحت شعار «القضية الفلسطينية»؛ لذلك فإن أية مواجهة شاملة بينهما ستفرز حلاً لا يرضي الطرفين؛ لأنه سيتضمن قيام دولة فلسطينية، وزوال وجود إيران العسكري من المنطقة؛ لذلك كلما اقترب العرب من حل مع إسرائيل تراوغ قيادتها، وكلما اشتدت عليها الضغوط عربياً وخارجياً، تخرب إيران التسوية المتوقعة. هذا ما حققته غزوة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بإنقاذ إسرائيل من الاعتراف بدولة للفلسطينيين، وأنقذت إيران من تشكل تحالف شرق أوسطي، يفرض التوازن معها، ويسحب القضية الفلسطينية منها. وهذا ليس سراً، فقد عبّرت إيران عن أن الغزوة أفشلت التطبيع، وكذلك إسرائيل التي استغلت الغزوة التي يعتقد كثيرون أنها لم تكن غافلة عنها. وتوجد معلومات نشرتها «نيويورك تايمز» تؤشر إلى أن القيادة الإسرائيلية تجاهلت تقارير عن تحضيرات تعدّها «حماس»، لدرجة أن بعض المجندات الإسرائيليات المعنيات بمراقبة الحدود مع غزة أبلغن القيادة بذلك، وكان الرد أن يَنْسَيْنَ الموضوع… فلماذا تجاهلت القيادة الإسرائيلية ذلك، وهل هدفها إيجاد مبرر للحرب، كما بررت لاجتياح لبنان في الثمانينات؟
المرجح أن إسرائيل كانت تراقب تحركات «حماس»، ولا يمكن الجزم بأنها لم تعرف خيطاً أو خيوطاً عن غزوة «السابع من أكتوبر»؛ والدليل أن إسرائيل بعد الغزوة تحولت إلى وحش متفلّت، وكان تركيزها المخفي على تنظيف عرقي في قطاع غزة، وتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية؛ وكانت الحملة من البشاعة بدرجة لم تنفع معها كل الدعوات إلى التهدئة؛ لقناعة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن هذه الفرصة لن تتكرر. وكما خدمت غزوة «حماس» إسرائيل، أثبتت، كذلك، الغزوة نبوءة قائد «فيلق القدس» الراحل قاسم سليماني بنظرية «حزام النار» الذي سمح لإيران عملياً بالسيطرة على عواصم عربية تحت شعار «تحرير القدس». لكن إيران تعرف تماماً أن إزالة إسرائيل تستدعي أولاً إزالة أميركا، وهذا محال، وبالتالي؛ فإن «حزام النار» يصبح ورقة للتفاوض، والضغط وليس التحرير. فإيران منذ الثورة وهي ترفع راية «التحرير»، ورفسنجاني عدّ أن إسرائيل لا تتطلب أكثر من قنبلة واحدة لإزالتها؛ وبعدها تحدث كل القادة الإيرانيين عن إزالة الكيان، مع إدراكهم أن إسرائيل دولة نووية، وأنه حتى لو حصلت إيران على «النووي»، فلن تقدر على إزالتها؛ فالرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك ذكَّر إيران بأنها ستزول من على الخريطة في اللحظة التي تضغط فيها على الزناد النووي.
التصعيد الإسرائيلي الكبير مع إيران بهذه المعطيات يخدم هدفين: إزالة الحق الفلسطيني في دولة، وتدمير المفاعل النووي الإيراني. الهدف الأول العمل جارٍ لتحقيقه، بينما الهدف الثاني يبدو صعباً لإدراك إيران أن إسرائيل تريد جرّها إلى معركة قسراً. وهكذا تصبح المعادلة ظاهرة للعيان: إسرائيل ترغب في القتال، وإيران تتجنبه، لذلك نرى إسرائيل تخرق كل الخطوط الحُمْر مع إيران في سوريا واليمن ولبنان وحتى في قلب طهران، ونرى العجز الإيراني واضحاً من خلال اختراع إيران نظرية جديدة سمّتها «الصبر الاستراتيجي»، وغايتها أنها لن تُجر إلى معركة تحددها إسرائيل. لكن استفزاز إسرائيل بلغ ذروته باغتيال هنية في مقر محاربي «الحرس الثوري» القدامى في طهران، وأصبحت بذلك القيادة الإيرانية أمام امتحان مضطرة فيه إلى تعديل نظرية «الصبر الاستراتيجي»، وهذا يعني على الأرض أنه لا يمكن استنساخ الرد الانتقامي على ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق؛ لذلك تجد القيادة الإيرانية نفسها في ورطة كبرى. وتدرك إسرائيل في المقابل ورطة إيران، وتحاول ضرب عصفورين بحجر واحد: إسقاط فكرة الدولة الفلسطينية، والتخلص من السلاح النووي الإيراني.
بهذا السياق يمكن قراءة اغتيال هنية داخل مقر «الحرس الثوري» المحصن بالصواريخ، ثم اغتيال ثاني أهم شخصية في حصن «حزب الله»، وفي الوقت ذاته ضرب جماعات إيران في بغداد، وتدمير منشآت الحوثي. ويبقى السؤال: كيف سترد إيران: هل ستكرر صفقة قنصلية دمشق، أم تذهب مرغمة إلى حرب متدرجة تؤدي إلى مواجهة شاملة؟ أمام إيران خياران: الدخول في مواجهة تنتظرها إسرائيل بفارغ الصبر، ولا يمكن الانتصار فيها ما دام الغرب يقف وراء إسرائيل، أو العضّ على الجرح وعقد صفقة مع الأميركيين قد تطيح سمعتها؛ إنما على الأقل تبقيها في المنطقة إلى أجل مسمى.