بقلم: جميل مطر – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- عرفت عن الحضارة الغربية ما يكفي ليجعلني قادراً على احترامها والدفاع عنها، وفي الوقت نفسه مدركاً لتجاوزات القائمين عليها وحساساً لمبالغات كهنتها وسقطات المبشرين بها. درست الديمقراطية باعتبارها هي والحقوق النابعة منها والمؤسسات المتفرعة منها أهم أسس هذه الحضارة. درستها على أيدي خيرة من أساتذة النظرية السياسية وتاريخ الفلسفة ونظم الحكم في جامعة القاهرة، ومن بينهم بطرس غالي وتوفيق رمزي وشابان في سلك الأساتذة، هما فتح الله الخطيب وإبراهيم صقر، عائدان لتوّهما من جامعتين واحدة في بريطانيا والأخرى في الولايات المتحدة.
أذكر جيداً مناقشات حادة كانت تجري بيننا كطلبة وبين هؤلاء الأساتذة حول قضايا في النظرية السياسية كالعقد الاجتماعي وفي الديمقراطية بشكل عام، فأجواء السياسة في مطلع الخمسينات من القرن الماضي كانت حبلى بتغيرات شتى أكثرها يدعو إلى إصلاح الديمقراطية كما وجدت في مصر أو طبقت قبل الثورة، كنا متفائلين بعزمنا المساعدة على تنفيذ وعد الثوار من ضباط الجيش والمدنيين المتحمسين للتغيير لإقامة ديمقراطية حقيقية.
مع الوقت استمر الجدل، ولكنه كان متأثراً بالتحولات الكبرى في السياسة الاجتماعية، ثم تراخى الجدل لصالح إقامة ديمقراطية من نوع يناسب ظروفنا «الخاصة». وأخيراً توقف مع تبني أنواع شتى من المؤسسات الجماهيرية تحل محل، أو إلى جانب، مؤسسات تمثيلية مختلطة بين القائم في دول الغرب والجديد المبتكر محلياً أو المستورد من شرق أوروبا. غابت وإلى يومنا هذا الفكرة الديمقراطية التي وضعَ بذورَها في مصر، كما في الهند، الاستعمارُ الغربيّ. لم تعش طويلاً في مصر، عاشت صورياً في تونس وسوريا ولبنان والأردن. كنت هناك شاهداً على فشل الديمقراطية في وعائها الغربي. عاشت طويلاً في الهند. هناك أيضاً كنت شاهداً على ممارسة بديعة للديمقراطية الإنجليزية غير متأثرة، في بداياتها، بظروف مجتمع آسيوي شديدة كانت تعقيداته ومكوناته. عشت فترتي هناك شاهداً مستمتعاً بمتابعة تجربة رائعة في الاحترام السياسي المتبادل بين أطراف متنافسة. عاشت التجربة الهندية طويلاً وإن شابتها مؤخراً علامات التعب والاستسلام لقوى جديدة لم تحتمل العيش في ظل تعددية سياسية وعرقية أو دينية.
هذه الحضارة، أو ما تبقى منها، تتعرض الآن لعوامل تعرية تهدد تماسك وتناسق مختلف الأجزاء المكونة لهذه الحضارة. تتخذ بعض هذه العوامل مظاهر شتى أو تختفي داخل تطورات ذات مغزى، أعرض هنا بعض هذه المظاهر والتطورات بإيجاز شديد:
* أولاً: احتمال عودة دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. سوف يبقى هذا الاحتمال وارداً إلى يوم تعلن فيه نتائج الانتخابات الرئاسية، ويبقى الخطر على الديمقراطية قائماً في الحالتين، فاز ترامب أو خسر. متابعتي للأحوال في أمريكا تشير إلى أن المجتمع الأمريكي يعيش مرحلة تصاعدت فيها التوترات الاجتماعية، كما أن الاستقرار السياسي لن يتحملها طويلاً.
* ثانياً: للمرة الرابعة يقف بيبي نتنياهو أمام الكونغرس خطيباً، أو قل متهماً، آتياً لتوه من حرب إبادة أطلقها انتقاماً لعملية نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال. هذه الزيارات للكونغرس، قلعة الدفاع عن الحضارة الغربية حسب أداء فريق في النخبة السياسية، هي في حد ذاتها ليست بريئة الغرض وليست لصالح مفهوم حضارة الغرب. هدفها المعلن تثبيت وتأكيد تواطؤ الولايات المتحدة مع دولة أجنبية في تنفيذ خطة شريرة ضد شعب أعزل، إذا قورن بقوة دولة الاحتلال المدعومة بقوات قوة عظمى. لم يبخل الضيف بعبارات تحمل معنى أن الحرب التي تشنها إسرائيل ضد غزة إنما تشنها دفاعاً عن أمريكا وحضارة الغرب. أتفهم غضب العقلاء من الأمريكيين الذين اعتبروا تظاهرة تصفيق أعضاء المجلسين، أو أغلبهم، مراراً ووقوفاً كان «مقززاً»؛ كان تجسيداً لحضارة في وضع انحدار.
* ثالثاً: سمعنا هذه الكلمة، «مقززاً»، تتردد في قلب العاصمة الفرنسية أكثر مما ترددت في واشنطن، ثم في عواصم أخرى تنتمي إلى الحضارة نفسها، تعقيباً على مشاهد احتفال الدولة الفرنسية بافتتاح أولمبياد 2024. نتنياهو في الكونغرس الأمريكي كان يفاخر الشعب الأمريكي بأن بلاده وهي تشن حرب إبادة إنما تلتزم مبادئ الحضارة الغربية وتدافع عنها، أما في باريس فكان المنحى، تبريراً لمشاهد الحفل وفلسفته، هو أن فرنسا، بتأليف وتنفيذ هذا الحفل، تضيف وبفخر شديد فصلاً جديداً في كتاب الحضارة الغربية لعله سوف يصبح الفصل الأشد قبحاً وإباحية وإلحاداً.
* رابعاً: أسمع أصواتاً أوروبية النشأة، وبعضها وربما أقواها أثراً من ألمانيا، تعرب عن قلق أصحابها من استمرار خضوع أوروبا للهيمنة الأمريكية. ففي ظل هذه الهيمنة فقدت أوروبا، وألمانيا بخاصة، سيادتها على سوق النفط؛ وهي السيادة التي سعت إليها مع روسيا وحققتها أنجيلا ميركل، ثم شاءت أمريكا أن تشعل حرباً باردة جديدة ضد روسيا راحت ضحيتها هذه السيادة و«سيادات» أوروبية أخرى عديدة. في النهاية صارت أوروبا بالفعل تابعة لأمريكا. أسمع من هذه الأصوات ما يردد خشية أصحابها أن تفسد أمريكا الحضارة الغربية؛ الحضارة التي تدين بوجودها لأوروبا وليس لأمريكا. يخشون أن تفسدها وتعيد تصديرها، أو بالمعنى الأدق، فرضها على أوروبا تحت عنوان حضارة الغرب. جدير بالذكر أن بعض هذه الأصوات تتهم الصهيونية بالتواطؤ مع أمريكا للتحكم في «السيادة» الألمانية.
يتحدثون عن مرحلة بدأت، ينشط فيها الفكر السياسي الأوروبي باحثاً عن مخرج سليم وسلمي لمأزق أوروبا في ظل «حرب حضارات» باردة متصاعدة ضد كل من روسيا والصين.