بقلم: عمّار الجندي- النهار العربي
الشرق اليوم– أخيراً فعلها الضغط الشعبي، وأخذ كير ستارمر، رئيس الوزراء البريطاني، يتراجع عن دعمه المطلق لحرب إسرائيل على غزة، ويفكك ما فعلته حكومة المحافظين السابقة لخدمة تل أبيب. وكما رددت وسائل الإعلام البريطانية منذ نحو أسبوعين أن لندن كانت تستعد لإعادة النظر بمعارضتها مذكرة اعتقال بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، ووزير دفاعها يوآف غالانت، أُعلن رسمياً ظهر الجمعة الماضي أن لندن لم تعد تتحفظ على تلك المذكرة. وأُفيد بأن ديفيد لامي، وزير الخارجية البريطاني، بصدد تقليص صادرات الأسلحة لإسرائيل. يأتي هذا كله في أعقاب استئناف لندن تقديم التمويل لمنظمة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”.
وستارمر لم يختر توقيت مراجعة مواقفه. فقد شاءت الصدف أن تأتي بعد يومين من مهرجان نتنياهو الخطابي في الكونغرس الأميركي، ليكون بمثابة التعليق غير المباشر على ادعاءاته بالبراءة هو وجيشه من دماء آلاف المدنيين في القطاع، واتهاماته للمحكمة الجنائية الدولية التي ذهب بعض وزرائه المتطرفين إلى حد اعتبارها معادية للسامية. وكانت الحكومة العمالية التي باشرت مهامها في 5 تموز (يوليو) الجاري قد أعلنت بادئ الأمر تبنيها طلب سابقتها الاعتراض على المذكرات التي طلبت المحكمة الجنائية الدولية إصدارها. ثم، ما لبثت أن غيرت رأيها في سياق توجه يشتمل على جملة من الإجراءات التي ترسم مسار تعديل في السياسة البريطانية إزاء حرب إسرائيل على غزة. وتوخت الحذر، فحرصت على تجنب انتقاد نتنياهو أو إدانة غالانت، وتبرير عدم وقوفها في وجه المحكمة الجنائية انطلاقاً من احترامها القانون الدولي فحسب!
إلا أن هذا لا يقلل من أهمية هذه الخطوة التي يقال إن لندن اتخذتها غير آبهة بضغوط مارستها كل من واشنطن وتل أبيب، لثنيها عنها.
ويا لها من نقلة نوعية، بين الإصرار على “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” ولو اشتمل ذلك على حرمان غزة من الماء والكهرباء والغذاء، بحسب ما قاله ستارمر الذي كلفه دعم حرب الإبادة بعناد 5 مقاعد برلمانية، وبين الوقوف على الهامش. ودفعته إلى هذه النقلة الخسائر لتي ألحقها به في الانتخابات الأخيرة معارضو سياساته حول غزة، ممن كادوا يسقطون بعض نجوم فريقه الوزاري لولا أنهم تمكنوا بشق الأنفس من الاحتفاظ بمقاعدهم البرلمانية.
هكذا أدرك الزعيم “البراغماتي”، كما يصف نفسه، أن التحول لا بد منه لحماية حزبه من انتكاسات مقبلة. تردد كثيراً، وتأخر أكثر. ثم تحرك من ضفة في اتجاه الضفة المعاكسة بشكل تدريجي، محاولاً أن يقطع الفجوة التي اتسعت منذ هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بينه وبين شريحة من الناخبين يشكل اليهود والمسلمون نسبة كبيرة منها. وبعد وصوله إلى 10 داونينغ ستريت، ترك وسائل الإعلام تتناقل تسريبات بشأن التراجع عن الاعتراض على مذكرات الاعتقال، ولم يكشف عن موقفه الرسمي حتى الساعات الأخيرة قبل إغلاق باب تقديم الاعتراضات. ويقال من أيام إن قرار خفض الصادرات البريطانية العسكرية لتل أبيب اتُخذ سلفاً بشكل مبدئي، غير أنه لا يزال بانتظار موافقة رئيس الوزراء ليدخل حيز التطبيق.
لا يعود هذا البطء إلى عجزه المألوف عن الحسم بسرعة فحسب، بل أيضاً إلى حسابات خارجية من أهمها وجوب التحرك بوتيرة متساوقة مع واشنطن. وعدم اتضاح أبعاد تحفظ كاميلا هاريس، نائبة الرئيس الأميركي، على ممارسات إسرائيل، ربما يجبره على التمهل. وهو في حاجة إلى مراعاة الولاء الاستثنائي لتل أبيب من قبل الأثرياء الصهاينة الذين مولوا حزبه، ومن جانب رفاقه في “مجموعة أصدقاء إسرائيل في حزب العمال”، التي ينتمي إليها، هو ولامي.
لامي مطالب بنشر النصيحة القانونية التي تلقاها بخصوص ممارسات إسرائيل، وحملته على التفكير بتطبيق الحظر الجزئي على تصدير السلاح لها. والأرجح أنه سيتهرب، لأن الوثيقة ستحتوي على اتهامات صريحة لنتنياهو بانتهاك القانون الدولي، وهو أمر لا يقوى هو أو زعيمه على الإفصاح به، لأنه سيكون بمثابة إعلان حرب على رئيس الوزراء الإسرائيلي وأنصار إسرائيل في بريطانيا وخارجها.
وأثار وزير الخارجية تساؤلات بتمييزه بين أسلحة “هجومية” يعتزم حظر تصديرها لإسرائيل و”دفاعية” لن يعترض على بيعها لها. فقد اعتُبر هذا التوصيف مطاطاً وعديم القيمة من الناحيتين القانونية والعملية، الأمر الذي يقلل في رأي منتقديه من فاعلية هذا التضييق المعلن على إمدادات الأسلحة البريطانية.
في أي حال، لن تعيق بريطانيا قدرة إسرائيل على مواصلة الحرب، حتى لو فرضت حظراً كاملاً لا جزئياً على بيع الأسلحة لها، فأميركا لن تقصر في مساعدتها. صادرات لندن لتل أبيب في 2022 التي كانت بقيمة 54 مليون دولار لا تقارن من حيث التطور أو القيمة بما تدفق عليها من واشنطن في ذلك العام من كميات زاد ثمنها على 8 مليارات دولار.
في المحصلة، لن يؤثر البطء والتردد والقيمة المحدودة على الأرض في القيمة الرمزية الكبيرة لهذا التحرك الذي يرجع الفضل في جزء غير صغير منه إلى محام يهودي شريف هو المدعي العام ريتشارد هيرمر.
بالأمس، عارضته إسبانيا وإيرلندا والنرويج، وانتقدته أكبر محاكم الدنيا، وشجب سياساته ملايين الطلاب في العالم. وغداً ستقف أستراليا وكندا ونيوزيلاندا ضده. واليوم، بريطانيا التي يربطها حبل الوريد بإسرائيل لم تعد مستعدة لمعاملتها “ضحية أزلية” أو لاعتبارها فوق القانون، مثلما فعلت دائماً من الناحية العملية.
نتنياهو الذي يطالب أكثر من 70 في المئة من الإسرائيليين برحيله، جعل بلاده عبئاً على أقرب المقربين من حلفائها. ويستبعد أن يردّ بعد عودته متعباً من أميركا التي حرمه شبابها من النوم في ما طالبه قادتها بإنهاء الحرب، على القرارات البريطانية بشكل صادم. فهو للأسف أذكى من أن يفجر صراعاً مع ستارمر لن يكون في مصلحته!