بقلم: فارس خشان- النهار العربي
الشرق اليوم– خطا “حزب الله”، في الأيّام القليلة الماضية، خطوات نوعية جديدة نحو تكريس هيمنته النهائيّة على القرار السيادي في لبنان، من خلال إفهام سائر القوى اللبنانية بأنّها يمكن أن تناقشه في مسائل السياسة الداخلية، ولكنّ عليها أن تكف عن لعب أيّ دور في كل ما له علاقة بالشؤون المصيريّة!
وقال الوزير السابق محمد فنيش، وهو أحد أركان “حزب الله”، في كلمة ألقاها خلال حفل تأبيني لأحد قتلى “حزب الله” في الجنوب: “من يختلف معنا في السياسة في لبنان، فعليه أن يبقي خلافه في دائرة المسائل السياسية الداخلية، ولكن في ما يتعلق بمستقبل الوطن ومصيره، فعليهم أن يسمحوا لنا”.
وهذا يعني أنّ “حزب الله” اتخذ قراراً بمنع القوى السياسية في لبنان من التدخل بكل ما له صلة بالشؤون المصيرية في لبنان، لأنّه وفق فنيش “لا يمكن أن نضع مستقبل وطننا في خانة رهانات ثبتت طيلة تاريخ صراعنا مع العدو أنها كادت تسقط الجنوب وتعرّض الثروات للخطر”.
لفهم أبعاد هذا الموقف الذي وزعته الدوائر الإعلامية المختصة في “حزب الله”، لا بد من تحديد الملفات التي تتعلق بمستقبل الوطن ومصيره، فما هي؟
من دون شك، تبرز إدارة الحدود اللبنانية في رأس القائمة. وقد فتح “حزب الله” جبهة الجنوب ضد إسرائيل في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وهو لا يزال مصراً على إبقائها كذلك “حتى انتهاء العدوان الإسرائيلي على غزة بكل أشكاله”، وفق ما حدده الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، في خطاباته الأخيرة. ويهمين “حزب الله” على الحدود البرية مع سوريا، ويستعملها لتمرير مقاتليه وكذلك لاستيراد غالبية أسلحته وذخائره. وفي كلمته تحدث فنيش عن البحر، إذ أعاد إلى حزبه القرار النهائي الذي انتهى إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، بوساطة ناشطة من الأميركي آموس هوكشتاين.
وهذا يعني أنّ “حزب الله”، من أجل تمكينه من “احتكار” الدفاع عن “مصير الوطن ومستقبله”، يجب أن تكون له الكلمة العليا في السياستين العسكرية والخارجية. وهذا اتجاه كان واضحاً، منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر)، عندما أُبلغ المسؤولون في الدولة اللبنانية أنّ كل مفاوضات بشأن الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية يجب أن تبقى معلّقة، وفق إرادة “حزب الله”، إلى ما بعد انتهاء الحرب في غزة.
وسبق أن وضع يده على السياسة المالية للدولة، عندما أصر في سنوات سابقة على إبقاء شخصية تابعة لـ”الثنائي الشيعي” في سدة وزارة المالية في الحكومات اللبنانية. وفيما يسيطر هذا “الثنائي” على رئاسة مجلس النواب، ويعطل الانتخابات الرئاسية حتى وصول “رئيس لا يطعن المقاومة في الظهر” إلى القصر الجمهوري، تظهر بوضوح أبعاد الموقف الأخير للوزير السابق محمد فنيش.
في هذه الحالة، ماذا يبقى إذاً، للأطراف السياسية الأخرى في لبنان، لتعمل من أجله؟
واقعياً، لا شيء أبعد من إدارة الشؤون الداخلية الخاصة بالمجموعات الطائفية في البلاد، وبذلك يكون “حزب الله” قد فرض، بما يملكه من قدرات سياسية وعسكرية، نوعاً من الفيدرالية في لبنان، بحيث يستفرد هو بالسياسات الدفاعية والخارجية والمالية ويضع في الرئاسة من يثق بأنّه سوف يضمن له استفراده هذا، فيما يترك الشؤون المحلية لإدارة القوى التي تنتجها الطوائف اللبنانية.
ولكن هل يمكن أن ينجح “حزب الله” في تكريس مشروعه هذا؟
إنّ “الجرأة” التي أظهرها الحزب، في الأشهر الأخيرة، بتسويق مشروعه، تُظهر أنّه بات واثقاً بقدرته على تحقيق ما يهدف إليه، فهو، في مسألة الجبهة الجنوبية، وهي الأخطر على البلاد، بكل ما لها من أبعاد دفاعية ودولية وإقليمية، استطاع أن يدفع بالمؤثرين إلى دائرة “الصمت الاستراتيجي”، في وقت جهد من أجل إظهار عجزهم عن تقديم أي حل منتج في المسائل السياسية الكبرى، كما هي الحال في ملف رئاسة الجمهورية، الأمر الذي دفع بعض هذه القوى إلى تركيز جهودها، حتى تظهر جدواها لقواعدها الشعبية، على ملفات ثانوية، كتخفيف أعباء اللجوء السوري عن البلدات المسيحية، وكاستعادة شعارات محاربة الفساد في الدولة.
ويدرك “حزب الله” منذ اليوم الأول لتوريط لبنان في حرب “طوفان الأقصى” أنّ محصلة هذا المسار، أياً كانت النتائج الميدانية، ستصب لمصلحته في الداخل اللبناني، فالجيش الإسرائيلي، حتى لو حقق انتصارات عليه، سوف يجلس، في النهاية، إلى طاولة مفاوضات، يقودها الحزب “من الخلف”، وتنتج ترتيبات تعطيه، في أسوأ تقدير، مكاسب كبرى في صناعة المعادلات في السلطة اللبنانية.
وحتى تاريخه، ليس هناك طرف لبناني واحد، قادر على عرقلة هذا المسار الواضح لـ”حزب الله”، لأنّ غالبية القوى الواقفة ضد هذا المسار، لا تملك، كما بات محسوماً، القدرة على التوفيق بين شعاراتها من جهة، وإمكاناتها من جهة أخرى!