الرئيسية / مقالات رأي / العقل العربي والحداثة.. قصور أم ممانعة؟

العقل العربي والحداثة.. قصور أم ممانعة؟

بقلم: حسن إسميك- النهار العربي
الشرق اليوم– إذا حاولت توصيف العلاقة بين الحداثة والعرب فلن تحصل على وصف أدق من القول إنها “متوترة”، تتأرجح بين شد وجذب وإقدام وإحجام، إذ لم تستطع تلك العلاقة -ورغم مرور أزمان على ولادة المصطلح- أن تتخذ الشكل الذي يتيح للحداثة أن تفرض قوانينها، أو أن تجعل المجتمعات العربية تتخلى عنها نهائياً، وهو أمرٌ غير منطقي بطبيعة الحال!

لكن إذا كنا نعلم يقيناً أنه لا مفرّ من الوقوع تحت مفاعيل الحداثة، ونرفض –في الوقت نفسه– أن ننصاع لها كونها مُستورداً خارجياً يستهدف هويتنا وأصالتنا، فما الذي ننتظره كي نبدأ صنع “حداثتنا الخاصة”؟ ونحن نرى أن الوعي بضرورة تشكيل الحركة الحداثية قد بدأ لدى أغلب الشعوب الأخرى منذ زمن، وقطعوا في ذلك أشواطاً متقدمة. بالمقابل ما زالت “الأزمة” بيننا وبين الحداثة مستمرة، ما يضعنا أمام سؤال جوهري: ما الحاجز بين العقل العربي والحداثة؟ هل هو قصور مزمن لا شفاء منه؟ أم أنه رفض وممانعة إرادية مُحكمة تزداد ضراوة وتجذراً؟

بداية تجدر الإشارة إلى الخطأ الشائع في التعامل مع الحداثة كحقبة زمنية أو عصر يبدأ وينتهي، بل الحداثة ذات جذور موغلة في القدم على امتداد تاريخ الوجود الإنساني، ولو كان بنسب متفاوتة بين عصر وآخر، وهي عملية مستمرة باستمرار العقل البشري. أما المصطلح نفسه فيمكن القول إنه ظهر في أوروبا في اللحظة التي صار فيها العقل هو سيد الموقف في تحديد ودراسة وتطوير ما يحيط بالإنسان من ظواهر، وقد تطورت سيادة العقل تلك بحد ذاتها حتى صارت آلية تقود وتؤسس لظواهر جديدة. وكان من آثار هذه السيادة إنتاج ثقافة علمانية مدعّمة بالعقلانية والعلم ومواكبة لولادة النظام الرأسمالي القائم على المجتمع الصناعي، وهكذا تحولت الحداثة إلى كيان فكري عام متكامل، يمتاز ببنية كلية ونزعة حداثية ترتكز إلى تحديث مادي وفكري لا يتوقف.

عربياً، لم تفلح جميع المحاولات الفردية في إحداث انتقال على مستوى العقل الجمعي نحو ما يمكن تسميته حداثة، رغم أن تلك المحاولات لم تتوقف ولا تزال تجري في أماكن مختلفة وعلى مستويات متعددة، ولهذا الحال أسبابه الكثيرة والمتداخلة، بعضها يتعلق بتراكم تاريخي لأفكار معادية للحداثة قادت نحو إعادة إنتاج تلك الأفكار بشكل أشد تطرفاً، وبعضها الآخر يرجع إلى التأثير الاستعماري الذي ارتبط بصورة الهيمنة الثقافية والسياسية على المجتمعات العربية، فصار التعامل مع الحداثة مرهوناً باعتبارها وسيلة من وسائل تلك الهيمنة، إلى جانب الخوف من التغيير الاجتماعي على وجه الخصوص والمرتبط بتحميل الحداثة المسؤولية عن تفكك القيم والتقاليد وتهديد الهوية كما يظن كثيرون، ويأتي على رأس مقومات الممانعة التناقض الذي يراه البعض بين مبادئ الحداثة والقيم الدينية، وخصوصاً الإسلامية بطبيعة الحال، نظراً لأن العقلانية والعلمانية والفردية هي أسس الحداثة المتينة بينما تشكل الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً للقانون والأخلاق وحتى أنظمة الحكم في معظم المجتمعات العربية.

حرية أولاً ثم حداثة..
يتطلب الانتقال نحو الحداثة، أو البدء في تكوينها عربياً، نقداً أو تشخيصاً لكل أوضاعنا كمقدمة ضرورية للانتقال نحو التغيير الواعي. فمما لا خلاف حوله هو أننا كمجتمعات عربية نعيش محنة وفوضى فكرية تطال جميع الجوانب ولا يبدو أن ثمة لها مخرج قريب. غير أن ذلك التشخيص يحتاج مستوى من الحرية لا نزال مع الأسف بعيدين عنه في معظم الدول العربية، مستوى يجعلنا قادرين على الخروج عن التقليد الجامد واستنساخ الماضي بأشكال جديدة، والانعتاق من الارتهان للاستبداد وللأنظمة القمعية الحاكمة أو لأي سلطة خارجية.

والحقيقة أن التقليد الأعمى، وبدعوى حماية الأصالة والحفاظ على الهوية، لم يخدم أحداً مثلما خدم استمرار الأنظمة المستبدة وترسيخها، فالحداثة -إلى جانب احتوائها على قيم تتناقض مع بنى تلك الأنظمة بطبيعة الحال- تعطي مجالاً للفكر الإنساني لابتداع ما يناسب أوضاع الشعوب في كل مرحلة زمنية ويتماشى مع قيم تلك المرحلة وتحدياتها المختلفة، وهذا يعني ضرورة كسر الأنماط الجامدة وعدم الإبقاء عليها بحجة “الأصالة”، لكونها مضاد جوهري لكافة أشكال العصرنة والحداثة.

تحولت الأصالة في عالمنا العربي إلى مرادف للطاعة العمياء والخوف من التغيير، وتبعاً لذلك باتت الحرية والعقلانية بدورها “تهمة” ودليلاً على العمالة للغرب، وكأنها منتج حصري لشعوب دون غيرها، ولقد تجذرت حال معاداة الحرية والعقلانية هذه حتى صار البعض يمارسها تلقائياً ويعيشها تلقائياً، وهذا يعمق الهوّة بين العقل العربي وأي حداثة يمكن الحديث عنها، فوجود الحرية ونموها في مناخ صحيّ هو الرافع الأساس للحداثة، لأنها تدعم التنوع والمشاركة وإنتاج أشكال جديدة من الثقافة والمعرفة والمعاصَرة.. وهذا جوهر الحداثة وديدنها.

هل الحداثة فعلاً تناقض الإسلام؟
لا يمكن إنكار أن الفشل هو المصير المحتوم لأي مشروع حداثي عربي يقوم على إقصاء الدين بشكل كامل من حياة الشعوب، إذ لا يمكن الحديث عن حداثة عربية لا تكون الثقافة الإسلامية مكوناً رئيساً فيها. الأمر الذي جعل العديد من المفكرين العرب يسعون إلى التوفيق بين الحداثة والقيم الإسلامية، فظهرت حركات إصلاحية في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت مهمتها تجديد الفكر الإسلامي وتكييفه مع العصر الحديث، وسعت لتطوير خطاب حداثي ينبثق من السياق العربي والإسلامي، لكن جميع تلك الجهود اصطدمت من جديد بمقاومة متعددة المصادر، فلم تستطع اجتراح صيغة حداثية قادرة فعلاً على الجمع بين الشريعة وأسس الحداثة، وهذا متوقع نتيجة الرفض التام والنهائي من قبل بعض رجال الدين لكافة محاولات تطوير الخطاب الديني، وتصويرها على أنها شرٌّ مُطلق، هذا من جهة، ومن جهة ثانية بسبب أولئك المفكرين الذين اعتقدوا أن الحداثة هي مجرد نقل المعلومات والمعارف إلى العالم العربي، فأهملوا النظر في كون الحداثة أسلوب تفكير جوهره العقلانية قبل كل شيء.

عموماً يمكن القول إن الحداثة جوبهت بالرفض الديني منذ البداية، واستخدمت الفتاوى الدينية في خدمة مناهضتها، فعلى سبيل المثال رفض المفتي العثماني في نهايات القرن التاسع عشر طباعة القرآن الكريم بالآلة الطابعة بحجة أن من صنعها هو شخص كافر ولا يجوز تدنيس أحرف القرآن بها. في مرحلة لاحقة تم وصف الديمقراطية بالبدعة الغربية وشاع أن تطبيقها هو عداء للدين الإسلامي، وهوجمت الأحزاب وكل دعاة فصل السلطات. ثم تحوّل الأمر حين أدرك الإسلامويون وبعض الحكام، أن بإمكانهم استخدام منتجات الحداثة السياسية للوصول إلى الحكم (كثيراً ما حاول الإسلام السياسي الاستفادة من الانتخابات الديموقراطية للوصول إلى الحكم، ثم الانقلاب عليها لاحقاً)، وهذا أحد اشكال التناقض الذي أسهم في ازدياد فوضى الموقف العربي اتجاه الحداثة.

ثم ظهرت لدينا ما يمكن تسميتها بالحداثة العربية الانتقائية إذ صارت مقبولة لدى المفكرين الإسلاميين من نواحٍ ومرفوضة من نواحٍ أخرى، ومع ذلك لا يمكن إنكار أن الحداثة استطاعت التسرب نحو الدين والفقه، وإن في حالات محدودة، وجرت إعادة النظر والتداول في قضايا كانت من المحظورات، حصل ذلك كله بجهود بعض المتنورين الأفراد ولم يشكل اتجاهاً فكرياً مستقلاً أو واضح الملامح.

وفي مراحل مختلفة دأب المفكرون الإسلاميون المعتدلون على إظهار صورة الإسلام المشرقة، مع استمرارهم في رفض بعض الأيديولوجيات التي تخالف صميم الشريعة مثل الشيوعية. وحصر بعضهم التحريم على مناقشة القضايا الإلهية، متيحاً المجال للحداثة التي تمس واقع الحياة المعيشية الأرضية، فرأينا انقلاباً في المواقف تجاه منتجات حداثية كانت محظورة في السابق، إلى حد أن عباس محمود العقاد وصف الديمقراطية يوماً بـ “جوهر الإسلام” الذي يمنع الاستبداد بالسلطة.

ولكن مع الأسف.. لم تستمر هذه الحركة المرنة طويلاً، إذ سرعان ما بدأت حركات الإسلام السياسي بالظهور والتصاعد، وأعيد استقطاب الشارع العربي والإسلامي تحت وطأة الاستعمار الغربي الذي أصاب الحداثة العربية الناشئة بمقتل، فعادت العلمانية لتصير رجساً من عمل الشيطان، ورُجمت الحرية مرة أخرى بتهمة التغريب، وأعيد استغلال الدين من أجل إبقاء المجتمعات أسرى الأنساق الماضوية رغم كل ما لمُس من فشلها في النهوض بأوضاع الناس، وللمفارقة فإن كل تطور غربي وحداثي كان يقابَل في اشتداد الممانعة العربية، وبالتالي ترسيخ الاستبداد السياسي وإقصاء قيم التسامح ونبذ المختلفين، وهذا ما شكل أرضية خصبة لاشتعال الحروب الأهلية بكل أشكالها، ونشوء صراع هوياتي عميق.. إلخ، وكان مردّ ذلك كله بالدرجة الأولى سوء فهم عميق لمعنى الحداثة!

فعلى المستوى السياسي مثلاً، كان لكل حركة ذات طابع أيديولوجي، إسلامي أو غيره، وجهة نظر ذات مصدر خارجي عن الشكل الأمثل للدولة، دفع كلٌّ من هؤلاء إلى النظر إلى الدولة العربية الفعلية وكأنها غير صالحة ويجب استبدالها بنموذج خارج بنتيها، وهذا بحسب عبد الله العروي ليس إلا نوعاً من التقليد الذي يضع للدولة هدفاً خارجياً، بينما التعامل الحداثي هو الذي يأخذ الدولة القائمة كمنطلق ويصبّ جهده على التعامل مع آليات عملها لإحداث التجديد، ويصف المفكر السوري برهان غليون هذه الأزمة حين يقول إن “المشكلة الحقيقية في الثقافة العربية هي هذا الانشقاق المتزايد بين ثقافتين، لكل منهما منظومة قيم ومعايير ووسائل انتشار، وشبكات نقل متميزة تعزل إحداها عن الأخرى، وتقود إلى تكوين جماعتين متنافرتين لا تحتمل إحداهما وجود الأخرى”. وهذا يفضي إلى السؤال: دولة شريعة أم دولة قانون؟

اللافت تاريخياً في هذا الخصوص أن الخلافة الأولى التي يجري الحديث عن ضرورة استعادتها في العصر الحالي، لم تكن سلطة دينية كما يوضح رضوان السيّد، فلم يكن لمنصب الخلافة قداسة خاصة ولم تكن السلطات ذات طابع ديني، ولذلك فقد استُنزف الجزء الأكبر من جهد الأمة في محاولات الخلفاء تحويل الخلافة/ أي السلطة/ إلى دولة/ أي مُلك/ من دون أن يؤثر ذلك مباشرة في علاقة السلطة بالإسلام.

أما عن تناقض الدين نفسه مع الحداثة أو تهديد هذه الأخيرة للقيم الإسلامية أو الدينية عموماً، فهذه الذريعة ليست حقيقية، فحتى غربياً وحين كان قادة حركة الأنوار يحاولون تحرير العقل الغربي من وصاية الكنيسة كانوا يجهدون في التمييز بين النظام الديني وسلطة الكنيسة وبين الروح الدينية المستقلة، فنرى ديكارت مثلاً يربط بين اليقين المعرفي بالوعي بأسبقية الوجود الإلهي، بحيث يستحيل الوصول إلى القطع بالحقائق الوجودية للأشياء دون الانطلاق من حقيقة وجود الله المطلق. وبالمثل فقد عمل معظم مفكري تلك المرحلة على جعل الدين ركناً شخصياً خاصاً بالإنسان -رغم عدم تدينهم- انطلاقاً من إدراك أهمية الدين في إرساء القيم والأخلاق والمعتقدات الإيجابية.

يطول الحديث حول علاقة الدين بالحداثة وخصوصية تلك العلاقة عربياً وإسلامياً، فلا تزال المقاومة عنيفة والخوف كبير ومتعاظم، ولم تساعد التجارب الفاشلة لتطبيق أي نوع من الإصلاح بمعزل عن الدين في تقدم هذه النظرة، وهذا ما يجعل المهمة صعبة تقتضي أن تكون الحداثة العربية على قدر من الفرادة والخصوصية لتتمكّن من الجمع بين طمأنة الشعوب الإسلامية على مستقبلها من جهة، تصنيع نماذج حداثية على جميع المستويات تسهم في رفع سوية الحياة الإنسانية من جهة أخرى.

الحداثة في مرمى الاتهام..
يتم أحياناً الخلط في الغرب بين الحداثة والتنوير، والحقيقة إن التنوير هو الابن الفلسفي للحداثة، فقد انطلقت الحداثة من تطور العلوم والإنتاج والتكنولوجيا وتم صقلها بأفكار التنويرين، ومع أن هذا الترابط نوع من التقليد المستمر في إطار الحداثة، لكن الحداثة بحد ذاتها ليست مستمرة، إذ إن لكل عصر حداثته أي أن ثبات العناصر كمسميات لا تعني أنها هي نفسها ثابتة، وبصيغة أكثر تبسيطاً فإن كل حداثة شكلت مخرجات جديدة أو صيغاً مختلفة لمخرجات ماضية، ومن هذه المخرجات كثيرٌ مما هو مختلف عليه، مثل النيوليبرالية التي يرى كثيرون أنها مسؤولة عن مآسي إنسان اليوم، إذ عجزت دول اليوم- والتي هي ابنة الحداثة- عن مواجهة جائحة كورونا مثلاً! وأن تلك الجائحة بطريقة ما هي نتاج حداثة.. ولا شك أن تحميل الحداثة مسؤولية مآسي القرن أعطى ممانعي الحداثة من العرب مبررات جديدة للاستمرار في مقاومتها وكيل الاتهامات لها!

ويتمسك الممانعون من العرب بالصيحات التي جاءت تحت عنوان “ما بعد الحداثة” والتي حمّلت الحداثة مسؤولية ما وصلت إليه البشرية من خيبات أمل وغياب العدالة الإنسانية والتفاهة والعدمية وفقدان القيمة، ورأت أن الركون للعقل وتقديسه قد أطاح بالقيم والأخلاق وولد الحروب والخلافات التي لا تنتهي، متهمين العقل ذاته بالوقوف وراء نشوء الأنظمة الاستبدادية والرأسمالية المتوحشة، وأنه سبب تفاقم الليبرالية التي تمجد الفردية وتسحق الأصالة والهوية، أو أنه بتمرده على السلطة الدينية والغيبيات قد دعم الجشع الرأسمالي وقدّم المادة على حياة الإنسان، ووكل ذلك نتيجة قصور في فهم الحداثة وجوهرها مرة أخرى.

يرفضون الحداثة.. فهل هناك بديل؟
لو سلمنا بأن الحداثة أضلت طريقها في بعض الأماكن ونتج عنها مشكلات ومساوئ، فهل بديل ذلك هو رفضها أو نبذها والاستمرار في اعتبارها أمّ الشرور جميعها؟ وإذا كنا لا نريد المشروع الحداثي بقيمه الغربية ومثالبه.. فهل نملك مشروعاً بديلاً؟ لا أعتقد أن هناك بديل، الحداثة أشبه بحتمية تاريخية ومهما طال زمن الممانعة واستعصى سيأتي اليوم الذي تفرض فيه نفسها على الجميع، ولذلك فإن قبول التغيير الذي تستلزمه الآن عبر دمج ما يصلح من إرثنا وحضارتنا وقيمنا وجعلها متماهية مع العصر، سيكون أفضل بالتأكيد من تأخير سينتهي إلى أن تُفرض الحداثة علينا من الآخرين، فنصير مجرد حقول تجارب في سجل التاريخ الإنساني القادم.

السؤال الآخر والأهم؛ هل نملك المقومات لصنع حداثتنا؟ بالتأكيد نملكها، فالعقول العربية لا سميا الشابة منها لا يكبلها سوى غياب الحرية، وقد أثبتت قدرات عالية في بلدان قدمت لها تلك الحرية. نمتلك الأصالة والهوية المتينة والدين الذي يضع الإنسان في أعلى مقام، وينقصنا الخروج من نظرية المؤامرة والالتفات إلى ما يمكن أن نصنع من مكوناتنا الذاتية تلك، فالحداثة هي استخدام الأدوات المتاحة، والتي لا ضير من استيراد بعضها، فنحن لا نحتاج لإعادة اختراع العجلة، بل يكفي أن نستخدم تلك الأدوات المستوردة وندمجها مع ما نمتلكه ذاتياً لصنع آلية متكاملة تعيد تشكيل النظام العقلي الخاص بنا، ليكون قادراً على الإنتاج بما يتلاءم مع العصر، هنا عند هذه النقطة تصح تسمية الحالة بالحداثة، والإنتاج هنا لا يتم على صعيد منفرد أو جانب واحد، لكنه سياق شامل لكل جوانب الحياة الإنسانية المادية والروحية والفكرية والفنية، ولا يمكن التغاضي عن حتمية القطيعة التامة مع أشياء ماضية لم يعد من الممكن الاستفادة منها.

لا مكان لشيء اسمه “ما بعد الحداثة” في عالمنا العربي فهي بيئة خصبة للنفور من العقل، وهو الأمر السهل الذي تنجذب إليه مجتمعاتنا في ميلها التاريخي المتراكم للخرافة والتقليد، فنحن لم نجرب الحداثة حتى نقفز لما هو بعدها، هذا ترف لا حق لنا فيه بعد! وعلى حد تعبير الكاتب خالد الغنامي “نحن بحاجة إلى قرنين أو ثلاثة نعيش فيها مع صرامة العقل وبعدها سيكون لكل حادث حديث”.

إذن، فهل الأزمة بين العقل العربي والحداثة قصور أو ممانعة؟ أعتقد أنها ممانعة طال أمدها فصارت قصوراً، مثل عضو صحيح في جسم الإنسان، لم يُستخدم لمدة طويلة فشارف على الشلل، لن يفيده مساعدة خارجية إذا لم يتولد لديه الوعي الكافي بقدرته الذاتية على الحركة من جديد.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …