الرئيسية / مقالات رأي / غزة.. وتراجع السلام الأمريكي

غزة.. وتراجع السلام الأمريكي

بقلم: ناجي شراب – صحيفة الخليج

الشرق اليوم- «السلام الأمريكي» مفهوم يشتق مما يعرف بالسلام الروماني، والسلام البريطاني، ويسمى أيضاً بالسلام الطويل. دلالة على وجود قوة مهيمنة مسيطرة، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، على الأمن العالمي، وعلى أمن الدول الأخرى. بعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة تشكل قلب النظام الدولي القائم، وتتفرد بقيادته حتى الآن.

المفهوم يرتبط إذن، بالقوة وما يطرأ عليها من تحولات في القوة، ومن بروز وظهور قوى أخرى تسعي لتقاسم القوة، عالمياً وإقليمياً. ومفهوم السلام الأمريكي ترجمة لتطور القوة الأمريكية من قوة انعزالية منكفئة داخل حدودها، إلى قوة مؤثرة في مجالها الإقليمي، ثم إلى قوة كونية أحادية مع كل ما يواجهها من تحديات وصعوبات في الحفاظ على هذا السلام.

وهذا المفهوم يعكس أيضاً القوة الأمريكية الشاملة، بشقّيها، الصلبة والناعمة، وما تملكه أمريكا من قوة تسمح لها بالسيطرة والهيمنة. ومفهوم السلام الأمريكي يجسد تطور القوة الأمريكية في كل مراحلها، وصولاً إلى التحديات التي تواجهها اليوم.

وتزامن ظهور هذا المفهوم مع الفيلسوف الفرنسي الكسيس دو توكفيل، وزيارته لأمريكا، حيث أشار إلى أن الولايات المتحدة احتفظت بمكانة بين الدول، وأنها تشكل دولة مهاجرين، وأنموذجاً للديمقراطية الحديثة.

وتعتبر نقطة انطلاق السلام الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، وخروجها من سياسة العزلة التقليدية، ومبدأ مونرو، لتلعب دوراً، رئيسياً ومحورياً، في إعادة تشكيل النظام الدولي، وتأسيس الأمم المتحدة، وتقديم نفسها حامية لهذا النظام، وللقيم الديمقراطية، والحفاظ على الأمن والسلام العالميين.

ومع خطة مارشال، ودعم الاقتصاد الأوروبي، وتقديم مساعدة ب13 مليار دولار للدول التي تأثرت بالحرب، يعتقد البعض أن الولايات المتحدة بدأت تحتل مكانة خاصة بين الدول المتقدمة، من حيث التطور التاريخي، والمؤسسات السياسية والدينية، والهوية الوطنية.

وقد تم استخدام هذا المفهوم في مراحل الظهور السياسي الأمريكي كدولة رفاهية، وترجمة للانعزالية التي سادت أمريكا تحت عقيدة مونرو، تجنباً للانغماس في الصراعات الخارجية. واليوم، يستخدم المفهوم كدلالة للهيمنة، والسيطرة، والتحكم في القرار الكوني.

في البداية، وُجّه نقد للسياسة الأمريكية لعدم توليها دور السلام البريطاني ما بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية، لتتخلى عن سياساتها التقليدية بعد الحرب الثانية، وبروز دور أكبر للشعب الأمريكي في السياسة الدولية. هذا المفهوم له جانبه السلبي لجهة أولوية المصالح الأمريكية، والتوسع، وامتداد النفوذ، وربط العلاقات مع الدول بقدر ما تحقق من مصالح. وبلغ هذا السلام مرحلة الأحادية مع أنهيار الاتحاد السوفييتى، وانتهاء الحرب الباردة في بداية تسعينات القرن الماضي، لأكثر من عقدين، ليبدأ التراجع في هذا السلام من قمة القوة إلى حالة من الفوضى والفشل في الكثير من المناطق، حيث هناك تراجع واضح للدور الأمريكي في العديد من المناطق، في آسيا وإفريقيا، وفي البلقان، وفي أوروبا، والأمثلة الأكثر وضوحاً في الحرب الروسية الأوكرانية، إذ رغم التسليح الأمريكي الهائل لأوكرانيا، ما زالت روسيا تحقق مكاسب ميدانية مستمرة، وترفض كل الشروط الأمريكية والغربية، والحال نفسه ينطبق على تايوان، والإصرار الصيني على استعادتها، سلماً أو حرباً. ولعل أبرز المناطق التي تراجع فيها هذا السلام والدور الأمريكي هنا في الشرق الأوسط، وفي الحرب على غزة.

وكما يقول المحلل الأمريكي هال براندز، من «معهد أمريكا إنتربرايز»: إن الصراع الدائر في غزه حالياً، هو مجرد جزء من أزمة أوسع، وأشد كثافة، يواجهها الأمن والسلام العالميان، ربما ينهي معه ما سُمي بعصر السلام الأمريكي الذي تم العمل عليه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والحرب الباردة.

إن فشل السلام الأمريكي يتجلى بأنصع صوره في فشل تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقيام الدولة الفلسطينية، وعدم الاعتراف بها، ووقف الحرب في غزة، وفي فرض قرارات مجلس الأمن الداعية لوقف الحرب، ووقف حرب الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل، ثم احتمال توسيع رقعة الحرب التي تلوح مؤشراتها في جنوب لبنان، واحتمالات الذهاب لحرب إقليمية شاملة.

وإضافة إلى الفشل على المستوى الإقليمي، وحالة الفوضى التي باتت تهدد السلام العالمي، فقد أبرزت الحرب على غزة تعمد الولايات المتحدة إضعاف المؤسسات الدولية من خلال طغيان القوة على قوة الشرعية، وفقدان دور المؤسسات الدولية لدورها، ومصداقيتها، وهذا يتناقض مع هدف ما يسمى السلام الأمريكي.

اليوم هذا السلام يواجه تحديات كبيرة، وكثيرة، أبرزها التحدي الصيني في الكثير من المناطق، والمجالات، في آسيا وإفريقيا، والتحدي الروسي في أوكرانيا، وتحدي تراجع الدور الأوروبي.

ويبقى التحدّي الداخلي الأمريكي، وما يعانيه النظام السياسي، من تحديات تصعب من دوره في الحفاظ على هذا السلام، كما نرى في الصراع على الانتخابات الرئاسية، واحتمالات عودة ترامب للرئاسة، وعودة شعار «أمريكا أولاً» معه، كما أن تعرض ترامب لمحاولة اغتيال فاشلة في بنسلفانيا، يؤكد أن أمريكا تواجه مخاطر داخلية حقيقية.

شاهد أيضاً

حكومة نتنياهو..تأزم داخلي وتجاذب خارجي

العربية- طارق فهمي الشرق اليوم– تواجه الحكومة الإسرائيلية أزمة جديدة متعلقة بتسريب معلومات أمنية تورط …