بقلم: علي حمادة – النهار العربي
الشرق اليوم- حتى الآن يمكن القول إن طريق البيت الأبيض بات مفتوحاً أمام الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي نال يوم أمس في المؤتمر العام للحزب الجمهوري الذي انعقد في الأيام الثلاثة الماضية في مدينة ميلووكي بولاية ويسكونسن، ترشيح الحزب لانتخابات الرئاسة في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. فبعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها في بنسلفانيا يوم السبت الماضي، تغير وجه الحملتين الانتخابيتين لكلا المرشحين، الرئيس جو بايدن عن الحزب الديموقراطي (قبل أن ينال ترشيح حزبه الرسمي في المؤتمر العام الشهر المقبل)، والرئيس السابق دونالد ترامب عن الحزب الجمهوري.
وقد أدت محاولة الاغتيال الى توحيد صفوف الحزب الجمهوري كما لم يحصل منذ أمد بعيد، حتى أن جاي دي فانس الذي اختاره ترامب ليخوض المعركة بجانبه نائباً للرئيس، كان من أشد معارضيه، لا بل انه سبق أن وجه إليه انتقادات عنيفة وقاسية جداً إلى حد وصفه بشبيه “هتلر”. أما المرشحان السابقان نيكي هايلي ورون ديسانتس فقد اصطفا خلف ترامب ومعهما الأغلبية الساحقة من مندوبي الحزب الذين حضروا المؤتمر العام.
إذاً نحن أمام المرشح دونالد ترامب الذي استفاد خلال فترة زمنية قياسية من عثرات الرئيس جو بايدن وسوء أدائه خلال المناظرة التلفزيونية التي فتحت عليه أبواب الانتقادات القاسية المرتبطة بقدراته الذهنية، إضافة الى الحدث الدراماتيكي الذي حصل يوم السبت المنصرم، ومنح دونالد ترامب أجنحة مكنته من “الطيران” فوق معظم الحواجز التي تفصل عن منصب الرئاسة، عملياً، وفي ظل الضياع الذي يعاني منه الحزب الديموقراطي المثقل بحمل ترشيح الرئيس بايدن، والضائع وسط خيارات بديلة غير واضحة. لكن الأمر الواضح هو أن طريق دونالد ترامب باتت شبه معبدة نحو البيت الأبيض. وبالتالي باتت جميع دول العالم المعنية مصالحها وتوجهاتها في السياسة الخارجية بالتحولات في الولايات المتحدة تضع في حساباتها الإمكانية الكبيرة لفوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية، بعد أربعة أعوام على خروجه من البيت الأبيض وسط أزمة اقتحام أنصاره مبنى الكابيتول في واشنطن في 6 كانون الثاني (يناير) 2021.
العالم العربي معنيّ مباشرة بما يمكن أن يحصل في الولايات المتحدة، ولا سيما على مستوى احتمال حصول تحوّل سياسي من إدارة ديموقراطية إلى ادارة جمهورية. ولا نجازف إنْ قلنا إنّ التحول سيكون نحو إدارة الرئيس دونالد ترامب شخصياً الذي يمكن تصنيفه من خارج الجسم الجمهوري التقليدي، ويصعب أن يكون سلوكه في السلطة شبيهاً بسلوك الرئيس الحالي جو بايدن. عملياً يشعر المراقبون بل يلاحظون أن ثمة ميلاً من جانبٍ غالبٍ من الجمهور العربي نحو ترامب كرد فعل مباشر على أداء إدارتي باراك أوباما وجو بايدن. أداء أسهم في مكان ما في صنع هوة سحيقة مع جمهور عربي كبير، فضلاً عن دول وحكومات عربية مصنفة حليفة تاريخية واستراتيجية، وخصوصاً أن الولايات المتحدة مالت خلال عهدي الرئيسين المشار اليهما آنفاً نحو خيار التقرب بكافة الأشكال إلى إيران على حساب المصالح القومية والاستراتيجية لحلفاء أميركا التاريخيين. والحال أن الميل نحو إيران في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما تحول بسرعة إلى جنوح نحوها، تمثل بإتمام صفقة الاتفاق النووي الإيراني صيف العام 2015، وإغفال وجهة النظر العربية ولا سيما الخليجية التي كانت تطالب الأميركيين والأوروبيين، ومن خلفهم الغرب بأسره، بأن يأخذوا في الاعتبار أن المشكلة مع إيران لا يمكن تلخيصها بالبرنامج النووي واحتمالات أن يستبطن شقاً عسكرياً سرياً، وفقاً للقناعة السائدة في دول المنطقة المعنية بالعلاقات مع الولايات المتحدة والمتاعب مع الجارة ايران.
أكثر من ذلك كانت وجهة النظر العربية التي عكستها بداية دول الخليج العربي الخبيرة بالجار الإيراني المتعب، أن لا يكتفي الغرب بصفقة ضعيفة بشأن البرنامج النووي بل أن تكون الصفقة شاملة، بحيث يتم فيها إدراج بندي التدخل الإيراني المزعزع لاستقرار الدول المجاورة والميليشيات المرتبطة بالمشروع السياسي والأمني الإيراني، وأيضاً بند برنامج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة التي اعتبرتها دول الجوار العربي بمثابة تهديد داهم على أمنها القومي.
لم تعر إدارة الرئيس أوباما أي اهتمام بالمخاوف العربية، بل بالعكس صممت على الإفراج عن الأصول المالية الإيرانية المحتجزة في المصارف العالمية بفعل العقوبات الأميركية، وتجاوزت 150 مليار دولار أميركي تمكنت طهران من تحريرها تباعاً، على وقع التحذيرات العربية من أن النظام الإيراني لن يستخدم الأرصدة المفرج عنها لتعزيز التنمية الاقتصادية، أو لتمويل البرامج الاجتماعية في بلد عانى ويعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة منذ عقود طويلة. وقد تبين في ما بعد أن الأرصدة أسهمت في تمويل مؤسسات الدولة العميقة التي يسيطر عليها تحالف رجال الدين المتشددين والمؤسسة العسكرية التي يقودها عملياً “الحرس الثوري”. وحتى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد انتخابات 2016 حققت إيران قفزات ضخمة في اتجاه التغلغل في النسيج الاجتماعي في العديد من دول المحيط العربي من العراق، إلى سوريا ولبنان، وصولاً إلى اليمن حيث أدى انقلاب جماعة الحوثي على الشرعية الى حرب أهلية دفعت تحالفاً عربياً للتدخل دفاعاً عن الشرعية اليمنية والبعد العربي للمجتمع اليمني. خلال ولاية ترامب بين 2017 و2021 جرى تمزيق الاتفاق النووي أولاً لضعفه، وثانياً لقصوره في ما يتعلق بالجوانب الأخرى المهددة للأمن والسلام الإقليميين ولمصالح الولايات المتحدة.
ومارس ترامب إثر تمزيقه الاتفاق عام 2018 سياسة متشددة مع إيران معيداً العمل بحُزم عقوبات قاسية أوصلت صادراتها النفطية إلى أدنى مستوياتها التاريخية، بحيث لم تتجاوز الـ300 ألف برميل يومياً. وأجبر ترامب العالم يومها على احترام نظام العقوبات الأميركية الى حد بعيد. وفي مطلع 2020 أقدم ترامب على اغتيال الرجل القوي لإيران في المنطقة، قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني فور خروجه من مطار بغداد.
مع مجيء جو بايدن إلى البيت الأبيض في مطلع العام 2021، حصل انقلاب تام على مرحلة ترامب، وعودة الى مرحلة أوباما، إلى حد أن ولاية الرئيس بايدن الأولى سميت بالولاية الثالثة للرئيس أوباما، فعادت الولايات المتحدة لتميل الى سياسة الربط والتقاطع مع إيران، بدءاً بإطلاق مفاوضات غير مباشرة في نيسان (أبريل) 2021 مع إيران بهدف إعادة إحياء الاتفاق النووي. وفتحت هذه السياسة التصالحية مع إيران الباب أمامها للتملص علناً من التزاماتها المثبتة في الاتفاق النووي وملاحقه التنفيذية. وفي عهد بايدن المتصالح مع إيران أعادت هذه تثبيت المئات من أجهزة الطرد المركزي المتطورة في مفاعلاتها ودفعت في اتجاه تخصيب كميات كبيرة من اليورانيوم الى مستويات تجاوزت 60 في المئة نقاء، أي أكثر من 20 إلى 25 ضعف المسموح به في الاتفاق. ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى رفع نسبة التخصيب الى حدود 85 في المئة، أي إلى العتبة العسكرية التي تسمح في ما بعد بإنتاج قنبلة نووية.
وما من شك في أن عملية “طوفان الأقصى” مثلت بالنسبة إلى الدول العربية المحيطة بإيران تهديداً قومياً كبيراً. وبصرف النظر عن الحرب وما تبع العملية من هجوم دموي إسرائيلي مهول، فإن شرائح واسعة من المستوى السياسي العربي تميل إلى الاعتقاد بأن “طوفان الأقصى” كان محاولة إيرانية لتحقيق أكبر اختراق إيراني في خلال أربعة عقود، في الجسم العربي. أولاً من أجل الإطاحة بمشروع الدولة الفلسطينية المستقلة. وثانياً لضرب مشروع التطبيع العربي – الإسرائيلي. وثالثاً لتحقيق أقصى تمدد أمني – عسكري إيراني مباشر أو بالواسطة في المنطقة تحت شعار محاربة إسرائيل. كل ذلك وسط ضعف الإدارة الأميركية الحالية وارتباكها الذي لا يزال سيد الموقف.
من هنا فإن جزءاً وازناً من العالم العربي يرى عن حق أن التهديد الأكبر للاستقرار والسلام في المنطقة مصدره مشروع إيران التوسعي في المنطقة. وبالتالي فإن عودة ترامب إلى البيت الأبيض – وإن كان من المبكر التنبؤ بسياسته الشرق اوسطية – ستكون أقل ضرراً على المصالح العربية بمواجهة الخطر الذي يمثله مشروع إيران. نعم لا يزال من المبكر التحدث عن سياسة ترامب وخياراته. فليفز لكي نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.