بقلم: سمير التقي – النهار العربي
الشرق اليوم- عن زمن مشابه، يقول ونستون تشرشل: “هذه ليست النهاية. إنها ليست حتى بداية النهاية. لكنها ربما تكون نهاية البداية”.
وفيما يبدو العالم مجنوناً طائشاً، تتلاطم روحه على وطء تحولات قلّ مثيلها في التاريخ، قد تؤشر لنا الانتخابات الثلاثة في فرنسا وبريطانيا وإيران إلى بعض مسارات التحول الداخلية بفرصها ومخاطرها.
نسا، جاء الإعلان عن الانتخابات مفاجأة إضافية، حتى لمساعدي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالذات. وفجأة صار على كل حزب إيجاد مرشحين مقبولين في 577 دائرة انتخابية وحشد الجماهير حولهم. فبهذه المفاجأة، قد تتمكن المؤسسة الفرنسية من قطع الطريق على اليمين المتطرّف. في الجولة الأولى، تصوّت قلوب الفرنسيين، لذلك كان عليهم معاقبة المجتمع السياسي الذي أهمل مطالبهم. أما في الجولة الثانية، فيصوّت الفرنسيون بعقولهم ليختاروا بين السيئ والأقل سوءاً.
وهكذا كان. على عجل، أمكن توحيد اليسار واستنفار آلته الانتخابية بكل تناقضاتها، وأمكن حشد الوسط المحيط بماكرون بكل عيوبه، فيما كسر ضيق الوقت وضيق الجغرافيا آمال اليمين المتطرّف.
وعلى افتراض أن لا أحد يريد العمل مع مارين لوبن، ستكون الحكومة لكتلة اليسار المتحالف مع بعض عناصر الوسط الماكروني، فيما يشكّل اليسار خليطاً طريفاً لا توحّده الأهداف، وثمة خلاف على صاحب الكتلة الأقوى، جان لوك ميلانشون المعروف بشخصيته المقتة والملتوية.
تحمل التحولات الفرنسية طابعاً إيجابياً مهمّاً من حيث لجم صعود اليمين. لكن، في وقت سيئ كهذا، تغيب القيادة الأوروبية، حيث يضعف دور ألمانيا بتحالفاتها الداخلية الهشة، وضعف قيادتها، ويذهب الفرنسيون إلى مطابخهم ليدبّروا شؤونهم الداخلية.
أما بريطانيا، فحالها أكثر فداحة. منذ أن وُجدت بريطانيا، قبل قرون، لم تكن سوى جزيرة نائية بمقدّرات وموارد بشرية قليلة، مقارنة بفرنسا أو ألمانيا. لكنها تمكنت من أن تسحب إليها خبرات الإسبان في زمن صعود التجارة في البحار العميقة، لتبني امبراطوريتها عليها، ولتصبح لندن وبورصتها وامبراطوريتها القلب المالي للعالم وعقدة تدوير أمواله بكفاءة رأسمالية عالية. والأهم أن بريطانيا تمكنت من جعل أكاديمياتها بؤرة رئيسية للعلم والإبداع، وتوليد التكنولوجيات.
لكن التاريخ لا يقف ساكناً قط، لتنمو المراكز المنافسة وتسحب بعض عناصر التفوق البريطاني. فبعد ألمانيا، كانت أميركا بنموذجها الاقتصادي والصناعي والأكاديمي والسياسي المنافس. ومن دون الحاجة لذلك النموذج الإمبراطوري البريطاني، تمكنت نيويورك من الصعود كمركز مالي كوني.
بعد اتفاقيات “بريتون وودز” للتجارة العالمية في عام 1945، لم يعد ثمة قيمة للحضور الإمبراطوري. وبدورها تمكنت بريطانيا من استعادة شيء من دورها أوروبياً، مستفيدة من حقيقة كونها الدولة الأكثر رأسمالية وليبرالية، والأقل “اشتراكية” بين الأوروبيين. وجذبت لندن رأس المال الأوروبي من جديد إلى أن فقد المجتمع السياسي البريطاني صوابه، قبل بضع سنوات، ليُخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من دون أية خطة بديلة. بعدها، قاد بريطانيا رتل من رؤساء الوزراء الأفاقين، أتاحوا للأوروبيين والأميركيين الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من النفوذ المالي الذي اعتاشت عليه بريطانيا طويلاً. حاول بعضهم تعويض ذلك بغسيل الأموال الروسية، لكن بعد أوكرانيا، فقدوا القشة التي تمسّكوا بها، وهرب رأس المال البريطاني خارجاً.
كانت الانتخابات البريطانية دامغة للغاية. خسر المحافظون ثلثي المقاعد، وضاعف العمال مقاعدهم حيث انهم سيحكمون من دون الحاجة لشريك.
التحدّي الجوهري الماثل أمام بريطانيا وحزب العمال فيها يتمثل في السؤال التالي: مع تقطع حبال العولمة الكونية، في أية مجموعة ستنخرط بريطانيا؟ من جهة، يصعب أن نتصور أن بريطانيا ستقبل الشروط الأوروبية الجديدة، حتى لو تقدّمت بطلب للعودة الآن. لكن الخيارات البديلة ستتطلّب عملية إصلاح جذرية وشاملة، تسمح بتعزيز القيمة المضافة للاقتصاد البريطاني بأسره.
ستحتاج بريطانيا إلى نموذج جديد للبناء والتدبير والتصنيع، وتحتاج إلى سوق واسعة. فإن لم تكن تلك السوق أوروبا، فلا شك في أنها ستكون أميركية بشروط أميركية في ظل اتفاقيات تماثل “نافتا” جديدة، ولا شك في أن بعضها سيكون مجحفاً. عندها، سيهاجر الكثير من رؤوس الأموال البريطانية لتتكامل في فضاء “نافتا” مع المكسيك وكندا، في ما سيشكّل انعطافاً استراتيجياً وثقافياً هائلاً، قد لا تتمكن التحالفات السياسية الراهنة لحكومة العمال من إدارته!
وأخيراً وليس آخراً، الانتخابات الإيرانية. في مقال سابق، أشرت إلى احتمال أن تختار القيادة الإيرانية رجلاً إصلاحياً ضعيفاً بهدف إخراج منصب الرئاسة من حلبة الصراع المتصاعد بين التيارين المتشددين الرئيسيين.
يشكّل الأول المتشدّدين العقائديين بما يمثلونه من قوة سياسية يعكسها عشرة آلاف إمام في البلاد، وتلتف حول المرشد الأعلى؛ ويعكس الثاني مصالح القيادات البيروقراطية العسكرية التي تتحكّم بمقدرات هائلة سياسية، والتي كان الرئيس الراحل يمثلها بامتياز.
واضح أن المرشد الأعلى لا يزال قادراً على لعب دور بيضة القبان بين القوى المتصارعة الكبرى، لكن القبان ذاته يبدو مضطرباً بشدة.
على هذا المفترق الخطر تقف إيران، لتختار بين تبريد الوضع الداخلي والإقليمي وبين تسعيره. ذلك أن من المؤكّد أن تنتقل الولايات المتحدة قريباً إلى جولة جديدة من العقوبات، بهدف دفع طهران أكثر نحو التفاوض على دورها ودور أذرعها في الإقليم الذي هدّد باحتمال تورط الولايات المتحدة مباشرة في الإقليم.
وإذا كانت العقوبات الأميركية قد صُمّمت للتأثير على المدى البعيد، فلقد حلّ هذا المدى بعد عشرين عاماً، ونحن نشهد تأثيره الحقيقي على مستوى المعيشة، حيث لا تستطيع إيران تصدير أكثر من نصف حجم إنتاجها النفطي الضروري للحفاظ على مستوى معيشي مقبول لمواطنيها. جرّبت إيران مسار تصدير الثورة، ورغم المكابرة، كان الأمر كارثياً. ويأمل الخبراء الغربيون أن يكون الدكتور بزشكيان قد التقط المغزى التاريخي للمرحلة السابقة.
في نهاية الأمر، تبقى الانتخابات مهمّة في إيران، لكنها مهمّة فحسب في سياق الصراع الداخلي المحتدم بقوة بين مراكز القوى في النظام. وعلى الرغم من التصريحات المتشدّدة للرئيس الجديد حول البرنامج النووي، وضدّ الغرب، ودعم الحوثيين و”حماس” ضدّ إسرائيل، لكن نبرته تشي أن عينه تبقى على مآلات الصراع المعقّد، الجاري فوق رأسه، بين مركزي القوة الرئيسيين.
لعلنا نقول إن الوضع الداخلي في إيران خرج من دائرة الَملل والروتين. ومن دون الحكم على الدجاجة قبل أن تفقس، ومن دون أن نتوقع تبديلاً وشيكاً، يمكننا القول إننا سنشهد، بلا شك، الكثير من الإثارة. فلأول مرّة منذ 40 عاماً، يطفو الانقسام داخل القيادة الإيرانية حول ما يجب أن تكون عليه إيران في الداخل، والخارج.
وعبر إرهاصات كهذه، لطالما بدأ التغيير. يقول نيلسون مانديلا: “يبدو الأمر دائما مستحيلاً، إلى أن يتحقق”.