بقلم: ماجد كيالي- النهار العربي
الشرق اليوم– تفيد التجربة التاريخية للبشرية، في كل زمان ومكان، بحق مقاومة الاستعمار والاضطهاد بكل الأشكال، وهذا ينطبق على المعايير الدولية الحديثة المقرة في الأمم المتحدة، وبديهي أن ذلك ينطبق على كفاح الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه المدنية والوطنية.
بيد أن مشكلة الفلسطينيين لا تكمن في مشروعية أشكال كفاحهم، ومن ضمنها المسلح، وإنما في اختيارهم الشكل النضالي الأجدى والأنسب، في الزمان والمكان المحددين، والملائم للمعطيات العربية والدولية. أيضاً، هذا يتعلق بكيفية إدارتهم كفاحهم بأصوب ما يمكن وبأقل كلفة ممكنة، بما يخدم تعزيز صمودهم في أرضهم، وتمكينهم أو تقريبهم من تحقيق أهدافهم.
القصد أن الحق في المقاومة، بخاصة المسلحة، مع الأثمان الناجمة عنها، ليس مطلقاً، أو مسلماً به، أو ناجعاً، في كل الأحوال، إذ يفترض أنه يتأسس على التبصر بالأحوال، الذاتية والموضوعية، والتكامل بين الأشكال الكفاحية والأهداف السياسية المتوخاة في كل مرحلة.
وباختصار، فإن أي شكل كفاحي، مجدٍ، ومؤثر وناجح، يفترض عدداً من المسائل، أهمها التمكن من استثمار أي شكل نضالي في منجزات سياسية، وهذا يتعلق بحسابات الجدوى، أو الكلفة والمردود، من كل النواحي، بخاصة السياسية، بمعنى استثمار المعاناة والتضحيات والبطولات، في إنجازات متحققة عملياً، بحيث لا تتحول المقاومة، أو التضحيات، إلى غاية في ذاتها، أو لمصلحة هذا الفصيل أو ذاك، لا “فتح” ولا “حماس” ولا الجبهات: وبديهي أن هذا بالضد من القول الذي صدر قبل فترة من أحد قياديي “حماس” بأن ما جرى في غزة هو ثمن للمقاومة، لأن محو غزة، أو تحويلها إلى مكان غير صالح للعيش، وتحويل مليوني فلسطيني فيها إلى مجموعة من البائسين اليائسين، الذين يفتقدون الحد الأدنى للقدرة للعيش، يفقد المقاومة حاضنتها، وجدواها، ناهيك بأن ذلك يعني أن الفصيل أهم من الشعب!
أيضا، وفي نظرة الى الواقع الراهن، فإن ما يجري لا صلة له بمفاهيم أو باستراتيجية حرب الشعب الطويلة الأمد، أو حرب الضعيف ضد القوي، إذ إن المقاومة لا تخاض وفق استراتيجية جيش لجيش، وصواريخ ضد صواريخ، فهي تكسب بالنقاط، لا بالضربة القاضية، وهي تعتمد على مقاومة الشعب أساساً، وليس على فصيل من عسكريين محترفين؛ فوق الأرض أو تحتها، لاسيما إذا كانت التجربة أكدت أن مثل تلك الاستراتيجية غير مجدية في تغيير قواعد الصراع، أو موازين القوى، بل إنها أدت إلى التسهيل على العدو تبرير استخدامه أعتى ما في ترسانته العسكرية من أسلحة فتاكة للبطش بشعب المقاومة؛ مع الأخذ في الاعتبار أن شغلة إسرائيل هي الحرب في حين شغلة الشعب الفلسطيني، وحركته الوطنية، هي المقاومة الطويلة الأمد، إذ إن إمكانات الحرب ومتطلباتها وأثمانها، غير إمكانات المقاومة ومتطلباتها وأثمانها.
هذا يأخذنا إلى مسألة أساسية أخرى مفادها أن غرض المقاومة استنزاف العدو وتفكيك وحدة مجتمعه، لا توحيده، ولا تمكينه من تبرير بطشه بشعب المقاومة، واستنزاف قدراته، كما حصل في قطاع غزة، حيث وصل الأمر إلى تدمير 80 في المئة من عمرانها، ببناها التحتية ومساكن أكثر من مليونين من الفلسطينيين فيها، مع حرمانهم من أي مصدر للملكية أو الموارد، ومن مقومات الحياة الأساسية، كالمياه والكهرباء والوقود والدواء والغذاء. وعليه فإن المقاومة الناجعة المسؤولة والراشدة، تدرس وتحسب مصادر قوة العدو ومكامنها، كما تدرس وتحسب مدى قدرة شعبها على التحمل، كي لا تحمله فوق قدراته.
وعليه، يمكننا ملاحظة أن العملية الهجومية في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، جرت ضمن إدراكات مختلفة عن كل ما تقدم، إذ استندت الى أفكار قدرية، من ضمنها تدخل الملائكة، وبالاستناد الى شعار أو إلى وهم “وحدة الساحات”، وعلى أساس شعار أنه “جهاد، فإما نصر أو استشهاد”.
ومشكلة الفلسطينيين هنا، أن حركتهم الوطنية، في أغلب الأحوال، نشأت على الاستهانة بالتضحيات، والأثمان الباهظة، مستندة في ذلك إلى إيمان الفلسطينيين بقضيتهم، واستعدادهم العالي للتضحية في سبيل حريتهم وحقوقهم، وإنهم يقاومون بعاطفتهم وعنادهم، مستغلة ضعف تطور كياناتهم السياسية، مع فصائل مستهلكة، تحولت إلى سلطة، لاسيما أنها لا تعتمد في مواردها على شعبها، وإنما على الموارد المتأتية من الخارج، ما يجعلها لا تولي مصالح الفلسطينيين، أو قدراتهم، أو تضحياتهم، الأولوية في صوغ خياراتها السياسية والكفاحية، بقدر رؤيتها لذاتها، ولارتباطاتها الإقليمية، وهو ما ينسجم مع قول قيادي في “حماس” أيضاً، إن حركته بنت الأنفاق لحماية مقاتليها، وإن الفلسطينيين في غزة من مسؤولية الأمم المتحدة.
يفترض الأخذ في الاعتبار، أيضاً، أن الكفاح المسلح الفلسطيني الذي انطلق في منتصف ستينات القرن الماضي، أتى كردّ على النكبة، بالاستناد إلى عقليات عاطفية وثأرية، ومن دون تأطير سياسي، مع مبالغة بالذات، وقيادات وكيانات افتقدت للحياة السياسية الداخلية، ومراجعة التجربة، كما اتسمت بالتبرم من النقد، ما أسهم في تقديس العمل المسلح، كأنه منزّل من السماء، وليس كعمل لمجموعة من البشر قد تخطئ وقد تصيب، علماً أن الكفاح المسلح الفلسطيني أعطى ما يمكن أن يعطيه في الظروف العربية والدولية في منتصف السبعينات، أي في السنوات العشر الأولى لانطلاقته، باستنهاض شعب فلسطين، وفرض قضية فلسطين في الأجندة العربية والدولية، وتكريس منظمة التحرير ككيان سياسي للشعب الفلسطيني.
وللتذكير، فإن الكفاح المسلح الفلسطيني دخل بعد منتصف السبعينات في أزمة، بإخفاقه في الخارج في تحقيق مزيد من الإنجازات، وإخفاقه في الداخل، في تجربة الانتفاضة الثانية التي تحولت الى انتفاضة مسلحة، وفق نمط العمليات التفجيرية (“الاستشهادية”)، وأيضاً في تجربة الحروب الإسرائيلية المدمرة على غزة، منذ هيمنة “حماس” عليها في العام 2007 (خمسة حروب)، هذا عدا عن ارتدادات الكفاح المسلح على العلاقات الفلسطينية الداخلية، إذ شهدت تلك التجربة حسماً بالسلاح للصراعات الداخلية الفلسطينية (مرة في لبنان 1983 ومرة في غزة 2007)، ويشمل ذلك تحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة في الضفة وغزة، عدا كونها كانت كذلك في لبنان، إزاء اللبنانيين والفلسطينيين، ما انعكس سلباً على الطرفين.
هذه ملاحظات مكثفة، كنت شرحتها في كتابي: “نقاش السلاح، مراجعة نقدية للتجربة العسكرية” (إصدار “المؤسسة العربية للدراسات والنشر”، بيروت وعمان، ومكتبة “كل شيء” في حيفا، 2020). وطبعاً فإن هذا النقاش لا يخص المقاتلين الذين قدموا التضحيات والبطولات، وإنما القيادات التي تتحكم بصوغ الخيارات السياسية والكفاحية من دون تبصر.