بقلم: يوسف مكي – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- تعود المناظرات بين المرشحين للرئاسة بالولايات المتحدة الأمريكية، لأكثر من سبعة عقود، حين تحدى المرشح الرئاسي الجمهوري، ويندل ويلكي، خصمه الديمقراطي الرئيس فرانكلين روزفلت ليطرح كل منهما فيها برنامجه الانتخابي. رفض روزفلت الفكرة من أساسها، ولم تتحقق تلك المناظرة، لكنها أسست لتقليد مهم استمر منذ عام 1960 حتى يومنا هذا.
المناظرة التي جرت في 26 أيلول/ سبتمبر عام 1960، بين مرشح الحزب الديمقراطي، وعضو الكونغرس الأمريكي، جون كنيدي وغريمه الجمهوري، ريتشارد نيكسون نائب الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور في شيكاغو، في استوديوهات تابعة لشبكة «سي بي إس»، هي الأولى، التي تغطيها شبكات التلفزة، وتحظى باهتمام محلي وعالمي. ولم يكتف المرشحان بتلك المناظرة، بل عقدا مناظرتين أخريين.
وقد تناولت كل مناظرة محوراً مهمّاً من محاور البرنامج الانتخابي لكلا المرشحين، شملت الأولى، المشاكل الاجتماعية، والحلول التي يقترحها كل مرشح لمعالجتها. أما المناظرة الثانية، فركزت على الأوضاع الاقتصادية، ورؤية كل منهما للسكة التي يجب السير عليها. وتناولت المناظرة الثالثة، السياسة الخارجية واتجاهاتها. وكانت الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي في حينه، في قمة اشتعالها.
ويجدر التنبّه في هذا السياق، إلى أن الخطوط العامة لبرنامج المرشحين، واضحة سلفاً للجمهور، لأنها تعبّر عن رؤية مستدامة لكلا الحزبين، لكيفية إدارة البلاد، والذي يهم في هذا السياق، ليس الخط العام بل التفاصيل.
فالحزب الجمهوري، يلتزم بالرؤية الاقتصادية التقليدية، للنظام الرأسمالي، التي بشرّ بها آدم سميث في كتابه «ثروة الشعوب». وتلتزم بشكل واسع، بالحرية الاقتصادية، وتقليص مهام الدولة، لتشمل قضايا الأمن والدفاع. وبرنامجها، وعلى هذا الأساس، يعتمد على تخفيض الضرائب، وإتاحة المجال للكارتلات الاقتصادية الكبرى، للعمل بحرية، ومن دون تدخل من أجهزة الدولة. وذلك يعني أن الجمهور المتضرر من تلك السياسات هي الطبقة المتوسطة، والفقراء والمعدمين. ويؤدي استمرار تلك السياسات، لأكثر من دورة رئاسية، إلى انتشار البطالة، وشيوع الكساد الاقتصادي.
أما الحزب الديمقراطي، فيمثل الطبقة المتوسطة، ويشمل المكونات العرقية الأمريكية، من أصول إسبانية وإفريقية، وبقايا المكونات العرقية التي تعج بها الولايات المتحدة. ويتبنى الحزب، ما يعرف بالعلوم السياسية بدولة الرفاه، حيث تضطلع الدولة، بتقديم الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، وتهتم بالضمان الاجتماعي، والقضاء على البطالة.
والواقع أن برامج الحزب الديمقراطي، تحمل في ثناياها، زيادة في الإنفاق وتضخماً في أجهزة الدولة، بما يفرض، باستمرار زيادة في الضرائب، بشكل مطّرد. وبالتأكيد فإن المهام الملقاة على عاتق الديمقراطيين، تتطلب تضخماً مقابلاً في تعداد العاملين بالجهاز الفيدرالي، وبقية أجهزة الدولة، بما يسهم في الحد من البطالة، وينشط الاقتصاد في بنيتيه المتوسطة والتحتية.
استمرار بقاء الحزب الديمقراطي في سدّة الحكم، لأكثر من دورة رئاسية، سيؤدي إلى ارتفاع أسعار السكن والإيجارات، كما سيؤدي إلى تضخم في أسعار السلع الغذائية. وسيكون من نتائج ذلك شيوع التضخم الاقتصادي، في عموم البلاد، بما يحدث حالة من الاستياء لدى الجمهور، فيغدو أنصار البرنامج الاقتصادي بالأمس، معارضين له اليوم.
وهكذا تجري الأمور في دورات متعاقبة بين الجمهوريين والديمقراطيين. يبلغ الكساد مداه، ويتحول إلى كابوس لا يحتمل، فيكون المطلب مجيء الديمقراطيين. وحين يبلغ التضخم مستوى غير محتمل من قبل غالبية الأمريكيين، يعود لبرنامج الجمهوريين ألقه وقوة حضوره.
تجرنا هذه المقدمة، إلى العنوان الذي تصدر هذا الحديث، «المناظرة الرئاسية البائسة»، فالمتصور والمنطقي في هذه المناظرة أن يهتم كلا المتنافسين على الموقع الرئاسي بالبرنامج الانتخابي، وأن يقدما تفاصيل واضحة لجمهورهما عما يجب أن يكون عليه مستقبل البلاد، في السنوات الأربع التي تلي وصول أحدهما إلى البيت الأبيض. لكنهما، وهذه هي المفاجأة شخّصنا المناظرة، ولم يتناولا ما هو جوهري. والأغرب في الأمر أن كلا المرشحين، تسلّما موقع الرئاسة سابقاً. بل إن الرئيس الحالي جو بايدن كان نائباً للرئيس باراك أوباما لثماني سنوات، بما يعني أن لديه سجلاً كبيراً يصل إلى اثني عشر عاماً في البيت الأبيض. ومع ذلك اتسم أداؤه بالضعف، لدرجة أساءت كثيراً إلى حزبه وجمهوره. وكان صوته أثناء المناظرة باهتاً جداً ولا يكاد يُسمع.
ويعزو الكثيرون، سبب فشل بايدن في المناظرة إلى تقدمه في السنّ، واحتمال إصابته بالزهايمر، وعدم التحضير الجيد للمناظرة. وإلى اللكمات العنيفة التي وجهها له خصمه، دونالد ترامب.
دونالد ترامب، هو الآخر، لم يهتم بتفاصيل ما ستكون عليه السنوات الأربع، التي سيعمل خلالها بالبيت الأبيض في حال فوزه، واكتفى بتوجيه الشتائم والألقاب اللاذعة ضد خصمه. ولم يفهم منه الجمهور شيئاً عن برنامجه الانتخابي، سوى كلمات عامة، لا تسمن ولا تغني من جوع.
لقد كانت المناظرة، التي استغرقت ساعة ونصف الساعة، هي عبارة عن هجوم عنيف، شمل أقذع الألفاظ والشتائم من قبل ترامب تجاه بايدن، ولم تقدم شيئاً للجمهور المحلي وللبشر الذين تحلّقوا حول أجهزة التلفاز، ليحيطوا بما ستكون عليه الأوضاع الاقتصادية والسياسية، في أقوى بلد في العالم، ليواجهوا بمستوى، غير مسبوق، من الانحدار، الذي لم يكن متوقعاً البتة. الشيء الوحيد الذي اتفقا عليه، هو تأييد حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. لقد كانت المناظرة بائسة بكل المقاييس.