بقلم: الياس البراج- النهار العربي
الشرق اليوم– تتخذ الدعوات إلى “الفدرالية” طابعاً “تنظيمياً” وشعبياً متزايداً في “بلدان” عربية عدة، حيث بات يصعب وجود “دولة” مركزية قوية ومستقرة. وسواء وصلنا إلى ذلك عن طريق مؤامرات أو بسبب فشل شعوب المنطقة في إدارة شؤونها، فإن مشروع “الدولة الاتحادية” اللامركزية “بديلاً رحيماً” من مشاريع الدول الفاشلة والفاسدة يبدو أحياناً أكثر تعقلاً وقبولاً للنقاش من اتجاهات الافتراق التام لدى كثير من المكوّنات و”الأقاليم”. والمثير أنه حتى مشاريع التقسيم لم تعد منذ مدة تثير استنفاراً أو فزعاً كما كانت الحال في مرحلة المد القومي أو صعود مشروع بناء الدولة الوطنية بعد مرحلة الاستقلال عن قوى الاستعمار. لقد أصبحت ردود الفعل على هذه التوجهات فاترة للغاية، سواء من النظام الرسمي العربي أم من التيارات الوطنية والقومية ووحدة الأمة “والجماعة”، بينما كانت تقابل سابقاً برفض قاطع مقرون بعصبية وبتخوين كل من تسوّل له نفسه المطالبة علناً بتوجهات كهذه.
وهكذا كانت مشاريع الانفصال و”التعدد الحضاري” قد انتعشت سياسياً وثقافياً وعسكرياً في بدايات الحرب اللبنانية، لا سيما في المناطق الشرقية من بيروت وشمال جبل لبنان، ثم طُويت صفحتها بعد وثيقة الوفاق الوطني اللبناني في اتفاق الطائف (1989). لكن مع الانهيار شبه الشامل لمؤسسات “الدولة” والأزمات غير المسبوقة في معظم المجالات، بما فيها الهوية والانتماء، عاد طرح الفدرالية في لبنان في السنوات القليلة الماضية بقوّة وجرأة أكبر، إذ تتواصل اللقاءات والتحركات الداعية إليها على أكثر من مستوى، وأحدثها ربما مؤتمر “لبنان الفدرالي الجديد” (تمت الدعوة إلى عقده في 12 يونيو/حزيران الجاري)، ومن الواضح أنها تتخذ طابعاً أكثر تنظيماً مع إطلالات ومواقف يومية من أنصارها، وتلقى ترحيباً ملحوظاً في مناطق عدة ومن منابر متنوعة ومنصات رقمية اجتماعية مختلفة.
يبرّر هذا القبول، الواسع نسبياً، اليأس المتزايد لدى فئات كثيرة من إمكان نجاح “الدولة المركزية”، بعد تطورات – حجج درامية عديدة، أبرزها إفشال تطبيق اللامركزية الإدارية وإلغاء الطائفية السياسية وفق ما نصت عليه وثيقة الوفاق الوطني اللبناني في اتفاق الطائف. حتى العوائق الجغرافية والديموغرافية التي كانت تساق ضد الفدرالية (أو ما هو أبعد ذلك) أصبحت اليوم قابلة للتجاوز بعدما تم تطوير “كيانات” خاصة تخطّت عوائق كهذه، أبرزها ربما كيان “حزب الله” السياسي والمالي والعسكري، الموازي للأجهزة المركزية، بحيث أصبح واقعاً معيشاً بل مدعاة إلى تعزيز الدعوة إلى دولة “اتحادية” وإنجاحها في ظل الإمعان في فشل المركزية وإفشالها.
وفي العراق لم يعد يقتصر الأمر على الحكم الذاتي لكردستان العراق مع كل تعثر سياسات بغداد ولدى كل خلاف على هوية وطنية مشتركة في ظل انفلات أمني وعسكري يتحدّى الحكومة الاتحادية. ولهذا يجري التداول والتلويح بين الحين والآخر بمطلب إقامة إقليم آخر أو أكثر للحكم ذاتي، وبخاصة في محافظة الأنبار، ويصل الأمر ببعض الجهات أحياناً إلى مطلب استحداث “إقليم سني” صريح في المحافظات الغربية وفي الوسط. وكل ذلك يمكن القيام به نظرياً مع تسهيلات يتيحها الدستور (المادة 119 خاصة) الذي أقرّ في 2005 إبان الاحتلال الأميركي وما تخلّله من إذكاء نزاعات مذهبية وإثنية استغلّت مظلوميات قديمة وأسّست كما يبدو لمظلوميات جديدة.
حُجج عديدة تُساق لتبرير فكرة إنشاء أقاليم حكم ذاتي جديدة، منها مشاعر بغبن طائفي ومخاوف من تغيير ديموغرافي ونفوذ إيراني متزايد في الشؤون الداخلية والخارجية بما يثير حفيظة أكثرية من العراقيين العرب.
أما في سوريا فلا جديد في التذكير بتفكك (أو تشظي) الدولة المركزية شاملاً تقاسم الأرض وتفتيت (وتشتيت) الشعب، والذي سجّل أشواطاً خطيرة بحيث بات صعباً تصوّر إعادة وحدة سوريا إلى ما كانت عليه، في المدى المنظور على الأقل. ووسط هذا الواقع قد يكون مشروع “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) المسمى “الإدارة الذاتية الديموقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا”، مع تنوّعه الإثني والطائفي (بقيادة كردية) أكثر مقبولية مقارنة بغيره من كيانات انفصالية فعلياً ولا يجمعها شيء في ما بينها، كما في كيانات الشمال الغربي والجنوب. يؤكد ذلك ما صدر أخيراً بلسان المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا من “قلق دولي عميق” من “تكريس الواقع التقسيمي في البلاد” حيث “تنشط 6 جيوش أجنبية علاوة على عدد كبير من الميليشيات المسلحة، بالإضافة إلى الجماعات الإرهابية المدرجة في قائمة مجلس الأمن” (2).
تحذيرات …وانهيارات
مع استثناء الأردن، قد يجوز لنا تسمية طرح الفدرالية في المشرق العربي مقارنة بتعثر أو انهيار مشروع “الدولة المركزية” وأزمات ثقة متبادلة، بنوع من “حل رحيم”، بمعنى أنه أخفّ استنزافاً للشعوب وأقل إنتاجاً للكراهية من الانقسامات التي بلغت أسوأ درجاتها منذ أكثر من قرن على الأقل، سواء في الواقع أم في النفوس. أو “حل رحيم” موقت بمعنى تجربة فدرالية قد تحفّز لاحقاً على إدراك أهمية مصالحة وطنية مشتركة حقيقية وتؤدي بالتالي إلى لحمة صادقة باتجاه كيان مركزي متماسك.
وما يشجع أكثر على طرح هذا “الحل الرحيم” هو أن المؤشرات في مناطق وأقاليم عدة تجعل الواقع أقرب إلى كيانات منفصلة “دستورياً”، حتى أن “فدراليات” الأمر الواقع الحالية صارت لها ميليشيات مسلحة وعلاقات خارجية خاصة في السياسة والولاء، أي أبعد بكثير من نظام الحكم الاتحادي الذي يبقي عادة مسؤوليات الدفاع والخارجية خاضعة لسلطة المركز.
ومن المؤكد أن التحذيرات المزمنة من الأخطار لم تعد تقدّم ولا تؤخّر في ظل تدخلات سافرة من قوى دولية وإقليمية، غربية وشرقية، حاضرة بقوة في قلب المنطقة ولكل منها منفعة في نسج علاقات مصلحة ونفوذ مع كل كيان انفصالي، حالي أو ينشأ مستقبلاً.
لقد بقيت الأفكار والأحزاب والأنظمة القومية واليسارية-الثورية والمحافظة عقوداً كاملة تنبّه من الوقوع في نير التقسيم وما يجرّه من تفتيت العالم العربي لغايات أجنبية ومصالح استعمارية، وبخاصة صهيونية. ورغم ذلك راح “التفتيت” يتحقّق تدريجياً في كل المنطقة، حتى وصل إلى “السلطة الوطنية الفلسطينية” نفسها حين وقع الانشقاق وانفصل قطاع غزة بقيادة “حركة حماس” عن حكومة الضفة الغربية في 2007.
يمكن رصد عاملين على صلة بهذه الانهيارات:
1- إدارة عصبية-فئوية وفوقية لمعنى الوحدة و/أو التضامن عربياً، وإنتاج “تجارب” مخيّبة ودامية أدّت إلى فقد ثقة ومشاعر كراهية عربية-عربية، كما في حالة تعسّف وصاية النظام السوري على لبنان بعد اتفاق الطائف، واحتلال صدام حسين الكويت (1990). لا هذا ولا ذاك قدّمانا ولو خطوة نحو فلسطين خلافاً لما زعمته تلك المحاولات “الوحدوية”. بل إن سياسات التعنّت والاستعلاء والقمع تلك ساهمت في تعريض كلا النظامين والبلدين والمنطقة، إلى كوارث ودمار، وانتهت إلى إيقاع كل منهما لاحقاً تحت رحمة أشكال وجنسيات مختلفة من التدخل والاستعلاء (التفوق!) الأميركي والروسي والإيراني والتركي، جنباً إلى جنب التطرف الطائفي والمذهبي.
2- والعامل الثاني هو حُمى النعرات الطائفية والمذهبية التي انتشرت كالنار في الهشيم بعد احتلال العراق إثر هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2000 على الولايات المتحدة، وتداعيات الحرب على الإرهاب (السني) ودولة حزب “البعث” وظهور “داعش”. وتتصل بهذا السياق نار النعرات الطائفية “والقطرية” التي أضرمتها أكثر فأكثر جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وما كان يمثله طائفياً ووطنياً وإقليمياً، ومعها جرائم اغتيال متتابعة للعديد من الشخصيات والنخب اللبنانية جمعتها الدعوة إلى بناء دولة مواطنة حديثة سقطت هي أيضاً ضحية نظام أمني شرّع الإفلات من العقاب. ثم تكرر هذا السقوط مع قمع انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 وإجهاض أهدافها الوطنية الجامعة.
الهيمنة ثم الهيمنة
كثيرة الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها من تجارب لبنان وسوريا والعراق، (ومعها تجارب كل من السودان والصومال واليمن). منها أن التيّار التفكيكي للدولة المركزية “الفاشلة” أصبح منتشراً بما يكفي، جغرافياً وديموغرافياً في المنطقة العربية، ليهدّد غيرها من الدول والكيانات “المتماسكة” بما هو أخطر من الفدرالية، مانعاً بذلك نضوج فكرة الدولة وحارماً شعوب المنطقة من العيش في دول تحترم سيادتها وأهلها وإنسانها، وتسودها قيم عدالة ومساواة.
ويمكن استخلاص أن الدعوة إلى الفدرالية أصبحت تلاقي قبولاً وصدى أوسع بسبب قوة هيمنة فئوية وتعسفها على باقي المكونات والفئات، حتى في حالة تداخل تصنيفات المناطق والسكان جغرافياً وطائفياً. أمّا حيث تكون الجغرافيا عاملاً مساعداً على الفرز، فإن الطريق تصبح سالكة لدعوات التقسيم والانفصال، لكنها تبقى مفتوحة على صراعات ونزاعات دموية مع من حولها.
لكن من أهم الخلاصات هب التأكيد أن لا التطرف ولا السلاح ولا الدهاء، ولا الاستقواء بالخارج، يمكن أن تضمن هيمنة طويلة المدى لأي فئة على غيرها من المكونات في نطاق البلد الواحد، أو هيمنة دولة أو محور على مكونات وكيانات المشرق ككل، بخاصة إذا كانت هذه الهيمنة تستند إلى عصبية دينية أو مذهبية معطوفة على اعتقاد بتفوّق قومي أو طائفي.