بقلم: حسن المصطفى- النهار العربي
الشرق اليوم– يعتبر موضوع خلافة المرجعيات الدينية في الحوزات العلمية للمسلمين الشيعة، من الملفات التي تعالج عادة بطريقة دقيقة وخاصة في الأوساط العلمية، تختلف كثيراً عن التصور السائد لدى عدد من المراقبين أو وسائل الإعلام، كون بعض هؤلاء الكتاب أو الجهات يطالعون المشهد من الخارج، دون مراقبة التفاصيل التي تحيك الصورة الكاملة، وهي تفاصيل دقيقة جداً وغاية في الأهمية.
مسألة “الخلافة” حضرت إلى المشهد مع تقدم عدد من كبار المرجعيات الدينية في السن، وبالأخص مرشد الثورة الإيرانية الحالي علي خامنئي، إذ يتساءل البعض عن إمكانية أن يكون ابنه مجتبى خليفة من بعده، ويصير “المرشد” القادم، تمهيداً لأن يكون مفتياً، خصوصاً أن مجتبى خامنئي شخصية لديها نفوذ وعلاقات واسعة، وأيضاً لديه درسٌ فقهيٌ خاصٌ يحضره مجموعة محدودة، يقدم فيه دروس “البحث الخارج”، وهي البحوث التي تعتبر بمثابة “الدراسات العليا” في الحوزات الدينية.
“المرجعية الدينية” ليست منصباً ينالُ عبر “الانتخاب” ولا “التعيين”، كما أن طريقة اختيار المرجع ليست متشابهة مع تلك التي تجري في الفاتيكان قبل إعلان إسم “البابا” الجديد!
هي مسألة أكثر تعقيداً، وبعضهم يلفها بشيء من “الغيب”، إذ تتردد جملة بين أتباع الفقهاء، يعتبرون فيها أن “المرجعية رداء يلبسها الله من يشاء”، وأن “المرجعية لا تمنح لمن يطلبها”.
عادة ما يجعل الفقيه مرجعاً هو قوة دروسه التي يقدمها، ومستوى طلبته، ومدى انتشارهم في الأمصار والحوزات، وأيضاً شهادة مجايليه له، دون نسيان تأثير عوامل أخرى اجتماعية وثقافية واقتصادية، وأحياناً سياسية وإن بدرجة أقل خصوصاً في حالة المرجعيات التقليدية البعيدة عن العمل السياسي والحزبي!
بالعودة إلى التأريخ لفهم أكثر. كان المرجع الديني الراحل محسن الطبطبائي الحكيم، زعيماً للحوزة العلمية في مدينة النجف العراقية في زمانه، وفقيهاً كبيراً يرجع له ملايين المسلمين الشيعة في بقاع مختلفة من العالم، في العام الميلادي المنصرم.
الحكيم الذي يعد من المرجعيات التي حظيت باحترام رسمي وشعبي واسع سواء في إيران أو السعودية أو البحرين… وسواها؛ كان لديه العديد من الأبناء الذين نالوا مكانة علمية – دينية مرموقة، وبعضهم وصل إلى مرتبة “الاجتهاد” أي القدرة على الافتاء.
المرجع الحكيم عندما توفي العام 1970، ترك فراغاً كبيراً بغيابه، لتنهال الوفود والعشائر العراقية على منزله، وتهتف باسم ابنه يوسف الحكيم، الذي كان عالماً فقيهاً وشخصية تنال احتراماً كبيراً في النجف.
الوفود التي قدمت بقيت تردد “سيف يوسف بايعناك، سيد يوسف قلدناك”، في إشارة صريحة منها إلى رغبتها في أن يكون الحكيم الإبن مرجعاً دينياً؛ إلا أن الإبن كان زاهداً في المنصب، ورغم كل الضغوط الشعبية إلا أنه رفض الرضوخ لها، رغم أنه تنطبق عليه المواصفات الشرعية.
لم يكن الزهد في المنصب هو السبب الوحيد الذي دفع فقيهاً مثل يوسف الحكيم إلى عدم تسنم منصب الافتاء، بل هنالك سبب آخر مهم جداً، وهو البروتوكول المعمول به في الحوزة العلمية بمدينة النجف، وهو بروتوكول صارم جداً لا يمكن كسره بسهولة.
جرت العادة في “الحوزة العلمية” أن لا يصبح الإبن مرجعاً دينياً بعد رحيل والده مباشرة، لأن “المرجعية لا تورث” وإنما هي مسؤولية ينهض بها الفقيه الجامع للشرائط الذي يشهد له كبار العلماء والطلبة المرموقين.
الأمر ذاته حصل بعد وفاة مرجع ديني آخر، وهو محمود علي عبد الله الشاهرودي، الذي توفي في النجف العام 1974، وكان مرجعاً دينياً وأستاذاً للفقه والأصول.
الشاهرودي كان لديه إبنان على درجة من العلم، وهما محمد وحسين، كلاهما يحظيان باحترام كبير نتيجة تفرغهما للتدريس والفقه وابتعادهما عن المناصب، وما اشتهرا به من زهد.
الفقيه محمد الشاهرودي، الذي توفي قبل نحو 6 سنوات، بقي منشغلاً بالتدريس لسنوات طويلة، ولم يصبح مرجعاً دينياً إلا بعد أكثر من ربع قرن على وفاة والده.
في الوقت الحاضر، المرجع العراقي محمد سعيد الحكيم، الذي توفي في أيلول (سبتمبر) 2021، وسط مشاعر جياشة واسعة من آل الحكيم ومقلديه في مختلف دول العالم، حيث كانت وفاته مفاجأة لهم؛ هذا المرجع الذي ينحدر من عائلة علمية عريقة، لديه عدد من الأبناء، يقول العارفون بهم إن أكثر من واحد منهم لديه المؤهلات الكاملة ليكونوا مراجع دين بارزين، إلا أنهم رغم ذلك، لم يتصدوا للافتاء، وتم كسر “الختم” الذي كان يستخدمه للامضاء على الفتاوى، كي لا يستغل من بعده.
هذه السيرة الصلبة في الحوزات العلمية، رغم رسوخها، إلا أنها كسرت أكثر من مرة، ولعل أبرز من خالف هذا البروتوكول هو المرجع الديني الراحل محمد الشيرازي، الذي طرح نفسه في مدينة كربلاء العراقية، مرجعاً خلفاً لوالده مهدي الشيرازي، العام 1960، وهو الأمر الذي أثار حينها ردود فعل “مستهجنة” عديدة.
كان محمد الشيرازي مرجعاً دينياً حركياً أكثر منه فقهياً تقليدياً، بمعنى أنه جاء بأطروحات جديدة يمكن تصنيفها ضمن ما يعرف بـ”الصحوة الشيعية” أو “الإسلام السياسي” الذي تأثر بشكل أو بآخر بـ”الإخوان المسلمين”، وأراد تقديم صورة مختلفة عن تلك التي كانت شائعة في الحوزات العلمية.
الشيرازي توفي العام 2001 في مدينة قم الإيرانية، بعد خلاف طويل نشب بينه وبين حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران، وضع على إثرها لسنوات في الإقامة الجبرية.
بعدما توفى محمد الشيرازي، خلفه أخوه صادق الشيرازي، الذي لا يزال مرجعاً حتى الساعة، إلا أنه عكس أخيه، بعيد عن السياسة ومهتم أكثر بالمسائل العقائدية والمذهبية!
صادق الشيرازي، ورث المرجعية عن أخيه، وهنالك حالياً من أبناء الأخوين المرجعين محمد وصادق من يعدون أنفسهم لخلافة صادق الشيرازي بعد رحيله؛ وبذلك تكرست “الوراثة” كتقليد في نسل المرجع مهدي الشيرازي، وهو أمر استثنائي ولا ينال دعم الفقهاء والأساتذة الكبار في الحوزات العلمية.
ما سبق، يقود إلى السؤال التالي: أي الطريقين سيسلك مرشد الثورة في إيران علي خامنئي؟
مراقبون يرجحون أن خامنئي لن يورث المرجعية الدينية ولا منصب “مرشد الثورة” لابنه مجتبى، رغم أن هنالك تقارير إعلامية تدعي ذلك، إنما هذه التقارير غير دقيقة وتقوم على التكهنات، وتفتقد للفهم الدقيق لتراتبية المرجعية داخل البيت الشيعي.
إن مرشد الثورة علي خامنئي، رغم أنه لا ينتمي للمدرسة الفقهية الكلاسيكية، إلا أنه يدرك أن الحوزتين الشيعيتين الأهم: النجف وقم، ترفضان مبدأ “التوريث”، ويعلم أن ذلك سيؤدي لامتعاض الفقهاء الكبار، وفي الوقت ذاته يدرك أن الشعب الإيراني الذي أطاح بالشاه الراحل محمد رضا بهلوي في ثورة شعبية العام 1979، سيرفض أن يكون هنالك شاه جديد اسمه مجتبى، حتى لو كان والده هو المرشد الحالي؛ فالقطاعات الشعبية المتبرمة من الوضع الاقتصادي المتراجع ومن حكم رجال الدين، لن تقبل أن يتم استبدال وريث يرتدي التاج بوريث آخر يرتدي العمامة!
هنالك أيضاً وصية مؤسس الثورة الراحل روح الله الخميني، الذي أوصى أبناءه بالابتعاد عن تسنم المناصب الرسمية في الدولة، وهي وصية ستكون ملزمة لخامنئي الذي يعد نفسه أميناً على إرث الخميني.
من هنا، سيكون من الصعب على مجتبى خامنئي أن يكون مرشداً للثورة في إيران بعد والده، وقد يكتفي بلعب دور ما خلف الستار، أو يكون ضمن النواة الصلبة المؤثرة دون أن يكون هو المتفرد بالقرار أو صاحب الكلمة العليا!
التقاليد الحوزوية الصارمة رغم أنها ليست بالضرورة تحترم من الجميع، إلا أن المرجعيات التي لم تلتزم بها واجهت العديد من المشكلات والتحديات، واتهمت بأنها أقل “فقاهة” أو خارجة عن سيرة المجتهدين الزهاد، أو أنها تتكئ على “السياسة” لا “العلم”؛ وهو أمرٌ وإن جلب لها شريحة من الأتباع والمؤمنين، إلا أنه يخدشُ في صورتها العامة، ويجعلها محط تشكيك دائم، وهو أمرٌ كلفته عالية في أوساط العلمية – الدينية.