بقلم: يوسف مكي – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- مع التأكيد على أن ما يجعل من التاريخ، علماً هو حركته، لكن هذه الحركة ليست بتراتبية متساوية، فكما نشهد الأعاصير والبراكين، ننعم في حالات أخرى بالسكينة والهدوء. ومجال السياسة الذي هو في الأساس صناعة إنسانية وفعل تاريخي لا يختلف كثيراً عن هذا التوصيف.
في العصر الحديث، ومع بزوغ طلائع القرن العشرين، شهد العالم اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكان من أهم نتائجها على الصعيد العالمي، هزيمة السلطنة العثمانية وألمانيا وانسحاب روسيا من الحرب. وللأسف فإن الوطن العربي، وبشكل خاص بلاد الشام والعراق، كانت الأكثر تضرراً من نتائج القسمة التي نتجت عن تلك الحرب، بين فرنسا وبريطانيا، وتفاصيل هذا الأمر معروفة للجميع.
ايات المتحدة، خرجت من عزلتها، من خلف المحيط وبدأت في التهيؤ للدخول بقوة في قلب العالم. وبريطانيا وفرنسا، خرجتا من الحرب، رغم انتصارهما الباهر، مثقلتين اقتصادياً. وكان المناخ في القارة الأوروبية، كئيباً وحزيناً.
وربما تعكس التعابير الجديدة للاستعمار، حقائق مستوى قوة الفاعلين الرئيسيين المعلنين في تلك الحرب. فقد دخلت تعابير الوصاية والحماية والانتداب، في القاموس السياسي، لأول مرة في المنطقة العربية، وجميعها تشير إلى محدودية زمن الاحتلال. ولا شك أن البيان العالمي لحقوق الإنسان، بمواده الأربع عشرة، الذي أطلقه الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون، كان له أثر كبير، في صياغة التعابير الجديدة للاستعمار، حيث اعتبر بيانه العالمي الاستعمار عملاً مقيتاً، وغير أخلاقي، وطالب بتصفيته.
على أن الكثير، من قراء السياسة الأمريكية، في تلك المرحلة، يميلون إلى أن دوافع ويلسون في بيان حقوق الإنسان، لم تكن أخلاقية محضة، بل هدفت إلى تهيئة المناخ اللازم لإزاحة الاستعمار التقليدي عن المنطقة والحلول محله.
ولأن الحرب العالمية الأولى، لم تكمل تحقيق الأهداف الفاعلين الحقيقيين في صناعة السياسة الدولية، كان لا بد من شنّ حرب أخرى، تعكس بنتائجها حقائق القوة الجديدة. ومع إطلالة عام 1929، ساد شعور عام، بصعوبة الوضع الاقتصادي العالمي، وبإمكانية تسبّبه في اندلاع حروب جديدة.
في حينه، كتب الزعيم الهندي جواهر لال نهرو رسائل تثقيفية إلى ابنته، أنديرا غاندي، نشرت لاحقاً في كتاب، حمل عنوان «ملامح من تاريخ العالم» تنبأ فيه باندلاع حرب عالمية ثانية، وقد صدر الكتاب عام 1936، قبل ثلاث سنوات من اندلاع الحرب.
ولا شك أن نجاح الحزب النازي، بقيادة أدولف هتلر، قد سرّع من اندلاع هذه الحرب. لقد كان هتلر عريفاً بالجيش الألماني، أثناء الحرب العالمية الأولى، وأصيب بجروح في معاركها، وكانت تأثيرات تلك الجروح عميقة نفسياً عليه. وجاءت اتفاقية فرساي والشروط التي فرضتها على بلاده لتشعر معظم الألمان الفخورين بعظمة بلادهم وبانتمائهم للجنس الآري بالمهانة والذل. وحمل هتلر على عاتقه، التخلص من قيود معاهدة فرساي، مركّزاً في البداية على استعادة الأراضي والمواقع الاستراتيجية التي فقدتها بلاده في الحرب العالمية الأولى.
اندلعت الحرب العالمية الثانية، وانتهت بهزيمة دول المحور: ألمانيا وإيطاليا واليابان، وانتصار الحلفاء. وقد كشفت تلك الحرب عن دمار هائل شهدته القارة الأوروبية، وعن انهيارات اقتصادية واجتماعية، لم يكن من السهل تجاوزها، رغم وجود مشروع مارشال الأمريكي، لإعادة إعمار ما خلفته الحرب.
كان الأبرز، في نهاية تلك الحرب، اكتشاف واستخدام السلاح النووي، لأول مرة في تاريخ البشرية، رغم ما قيل في حينه، عن استعداد اليابان للاستسلام، قبل قصف مدينتي هيروشيما ونجازا كي بقنبلتين نوويتين، وأن الهدف من ذلك، كان ترهيب جوزيف ستالين، السكرتير العام للحزب الشيوعي بالاتحاد السوفييتي بحقائق القوة الأمريكية الجديدة.
ولحسن طالع العالم، أن أمريكا لم تنعم طويلاً باحتكارها لسلاح الرعب النووي، فقد دخل الاتحاد السوفييتي، هذا النادي بعد فترة وجيرة، من نهاية الحرب العالمية الثانية. وبات قطباً عسكرياً منافساً لغريمه الأمريكي، واستمر العالم، بقطبين رئيسيين، حتى سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينات، حيث تفردت أمريكا بعد ذلك بالهيمنة على مقادير السياسة الدولية.
ولأن تفرد قوة واحدة باحتكار الهيمنة على العالم بأسره، نشاز في التاريخ الإنساني، لم يقدر له أن يستمر طويلاً. فبعد أقل من عقدين على انهيار الاتحاد السوفييتي، عاد الدب الروسي مجدداً وبقوة، بقيادة فلاديمير بوتين، إلى المسرح الدولي. وتزامن ذلك باكتساح التنين الصيني، العالم بأسره، بمنتجاته، وليتحول إلى قوة اقتصادية، تكتسح جميع الأسواق، وتضاهي في قوتها، غريمتها الاقتصادية، الولايات المتحدة الأمريكية.
موسم التسويات، مشروط بقناعة جميع الأطراف الفاعلة في الصراعات الدولية، بأن الوقت قد حان للتوصل إلى تسويات عملية، للمشاكل التي يعانيها العالم. وذلك ما يبدو بعيد المنال، في هذه اللحظة. فروسيا بوتين، منشغلة في حربها بأوكرانيا، وتحقق انتصارات باهرة، في عدة جبهات. والصين انتقلت في مطالبتها باستعادة تايوان، من مطلب سلمي، إلى التلويح باستخدام كل الوسائل لتحقيق ذلك، بما في ذلك القوة العسكرية أما فيما يتعلق بالوطن العربي، فالحديث ذو شجون، حرب إبادة في قطاع غزة، وحرب أهلية طاحنة في السودان، وحرب عالمية على سوريا.. بما يعني أن العالم لا يزال بعيداً عن موسم التسويات.