الشرق اليوم- فجأة وعلى غير موعد أو إعلان مسبق تعلن موسكو عن قيام بعض من قطعها البحرية العسكرية المتقدمة بزيارة إلى كوبا، ذلك البلد الكاريبي الذي كاد يشعل حرباً نووية في أوائل ستينيات القرن الماضي، وذلك حين اكتشفت الأقمار الاصطناعية الأميركية تحركات لسفن سوفياتية تحمل صواريخ نووية، ويجري بناء قواعد لها في العاصمة الكوبية هافانا، لتضحى تهديداً لأميركا في أوج الحرب الباردة.
استطاعت حنكة وحكمة الأخوين كينيدي، جون في الرئاسة وروبرت مستشاره للأمن القومي، نزع فتيل الأزمة، وإن بثمن مقابل تمثل في تفكيك محطات صواريخ نووية أميركية في تركيا.
هل اليوم شبيه بالأمس؟
هذا هو التساؤل الذي يختمر في الأفق هذه الأيام جراء تحرك قطع البحرية الروسية، والتي ستقوم بعمل مناورات مع كوبا على مقربة نحو 660 ميلاً من ولاية فلوريدا الأميركية.
يتساءل المراقبون والمحللون، سياسيين كانوا أو عسكريين، “هل هي تحركات روسية تمثل نوعاً من أنواع التحركات الروسية المدروسة في هذه الأوقات الصعبة التي تسعى فيها واشنطن إلى نشر أسلحة نووية في بولندا ورومانيا وعدد من الدول القريبة جغرافياً من روسيا، في تهديد مباشر لموسكو التي تدخل عامها الثالث من عمليتها العسكرية في أوكرانيا؟
الشاهد أن هذا التحرك الغريب وعلى رغم إعلان واشنطن أنه لا يمثل تهديداً لها، فإنه بحال من الأحوال، يمكن فهمه في سياق تبادل أدوار استراتيجية، إذ يستغل كل لاعب ما يتوافر له من أوراق، فوق مائدة اللعب، لتحقيق أكبر مكاسب في الصراع الدولي المحتدم.
وأعاد تحرك السفن الروسية الأخير التساؤلات عن عمليات مشابهة جرت من قبل عام أو عامين ولم يسمع صداها، واليوم وفي ظل أزمة القطبية العالمية المتعددة، تبدو هناك أزمة كبرى تخلق في الأفق، لا سيما أن كوبا لم تعد محط أنظار الروس فحسب، بل لأصدقائهم، وإن شئت قل لحلفائهم من الصينيين بصورة أو بأخرى.
ما حقيقة المشهد الذي تجرى به المقادير بين مثلث موسكو – هافانا – واشنطن؟
السفن الروسية إلى هافانا الكوبية
وقت كتابة هذه السطور كان الخبر يتحدث عن إعلان مسؤولين كوبيين عن استقبال مرتقب في هافانا، لأربع سفن روسية، بما في ذلك غواصة تعمل بالطاقة النووية، ووقت ظهور هذه الكلمات للنور، غالباً ما ستكون قد رست بالفعل.
الكوبيون أكدوا أنه ما من سفينة من بين السفن الأربع تحمل أسلحة نووية، وعليه فإن وجودها لا يشكل تهديداً أمنياً للمنطقة.
السفن الروسية الأربع هي الفرقاطة “غورشكوف” والغواصة النووية “كازان” وناقلة النفط “باشين” وقاطرة الإنقاذ “نيكولاي تشيكر”. ويمكن لنا التساؤل بداية “هل هذه المرة الأولى التي تزور فيها قطع بحرية روسية مهمة كوبا في الأعوام الأخيرة؟
المعروف أنه في يونيو (حزيران) من عام 2019 رست واحدة من أهم القطع البحرية الروسية (ضمن السفن الأربع حديث الزيارة الحالية) في ميناء هافانا وهي السفينة “الأدميرال غورشكوف” وهي واحدة من السفن البحرية الأكثر تقدماً في البحرية الروسية ومسلحة بصواريخ “كروز” وأنظمة الدفاع الجوي وأسلحة أخرى، وتتمركز الفرقاطة في ميناء “سفيرومورسك”، في القطب الشمالي، وتعد جزءاً من الأسطول الشمالي الروسي.
لاحقاً، وفي يوليو (تموز) من العام الماضي 2023، رست سفينة التدريب الروسية “بيريكوب” في ميناء هافانا وقام بحارتها بمجموعة واسعة من الأنشطة، وقد كانت هذه الزيارة الأولى لقطعة من قطع البحرية الروسية ترسو في كوبا منذ 2019، وعدت وقتها علامة على إعادة تشكل العلاقة بين الحليفين في حقبة الحرب الباردة، لا سيما بعد أن كاد انهيار الاتحاد السوفياتي يؤدي إلى انهيار الاقتصاد الكوبي. على أن الفارق هذه المرة نوعي وكمي، لا سيما في ظل وجود الغواصة الروسية النووية “كازان”، مما يستدعي علامة استفهام مهمة وخطرة “كيف تقيم واشنطن المشهد؟ وهل لها أن تقلق بالفعل من استئناف الجهود الروسية الكوبية في الكاريبي وفي وقت مهم وحساس، بل خطر للأمن القومي العالمي، جراء الجرح الغائر والمفتوح على كل سيناريوهات الرعب في أوكرانيا، بما في ذلك سيناريو المواجهة المسلحة العالمية النووية؟
هل واشنطن غير قلقة بالفعل؟
يبدو من المثير أن الكوبيين لم يعلنوا عن زيارة القطع الروسية إلى هافانا إلا بعد يوم واحد من إعلان مسؤولين أميركيين أن واشنطن كانت تتعقب السفن الحربية والطائرات الروسية التي كان من المتوقع أن تصل إلى منطقة البحر الكاريبي لإجراء مناورة عسكرية.
الإعلان الأميركي ومن غير أدنى شك يفيد بأن الشكوك والهواجس الأميركية تجاه تحركات البحرية الروسية قائمة بالفعل على رغم محاولات رأب الصدع بين واشنطن وهافانا فقد فهم الأميركيون أن التدريبات الروسية مع الكوبيين حكماً ستكون جزءاً من رد أوسع على الدعم الأميركي لأوكرانيا.
يقول الأميركيون إن الوجود العسكري الروسي في كوبا الذي بدا ملحوظاً أخيراً، لا يشكل أو يثير القلق واستمع العالم إلى المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي وهو يصرح بأن بلاده “لا ترى أي تهديد في زيارة السفن الروسية لكوبا” وتابع “نحن سنتابعها باهتمام ولا نتوقع أن يمثل هذا الحدث أي تهديد لأمننا القومي”.
هل هذه التصريحات حقيقية أم أنها محاولة أميركية لمواراة ومداراة القلق البالغ جراء سخونة المشهد الروسي – الأميركي في أوكرانيا؟
المقطوع به أن كل مربع نفوذ في كوبا تملؤه روسيا يعد اختصاماً من علاقة هافانا مع واشنطن والمتابع للموقف الرسمي لكوبا من علاقات الولايات المتحدة، بخاصة و”الناتو” عامة مع روسيا يدرك مقدار ما تخسره واشنطن.
في حديث أخير على هامش زيارته الأخيرة لموسكو، في مايو (أيار) الماضي للمشاركة في اجتماع المجلس الأعلى للاتحاد الاقتصادي الأوراسي قال “نحن ندين ونرفض توسع ’الناتو‘ نحو حدود روسيا”، وانتقد الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل كذلك العقوبات الاقتصادية الأميركية على روسيا، بينما أشاد بمشاريع التعاون والتآزر “الروسية في التطوير في كوبا”.
في الزيارة عينها أعلن البلدان سلسلة من الاتفاقات وتبادلا الوفود رفيعة المستوى. فما الذي تشمله هذه الاتفاقات؟ وهل هي مزعجة حقاً لواشنطن؟
تشمل الصفقات السماح لروسيا باستئجار أراض في كوبا لمدة تصل إلى 30 عاماً وتطوير مرافق سياحية على شاطئ البحر قرب هافانا وفتح سوبرماركت بمنتجات روسية وتزويد الجزيرة بالوقود الذي تشتد الحاجة إليه.
هل تحتاج روسيا إلى أراض وهي من أكبر دول العالم مساحة؟ أم أن الأراضي المستأجرة لها أهداف استراتيجية روسية ما ورائية؟ وهل تقوم موسكو بتزويد كوبا الوقود مجاناً؟
الجواب نجده لدى خورخي بينيون، وهو زميل أبحاث بارز في جامعة “تكساس” في معهد “أوستن” للطاقة، فمنذ بداية حرب أوكرانيا أرسلت روسيا إلى كوبا كميات من النفط أكبر من أي وقت مضى منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وحتى الآن، وقد قدر بينيون أن روسيا سلمت ما قيمته 167 مليون دولار من النفط.
هنا ربما يلزم التأمل في مشهد العلاقات الروسية – الكوبية، لا سيما أن الجزيرة الكاريبية تعاني ضائقة مالية والنفط هو بمثابة شريان الحياة بالنسبة لها وقد أدى نقصه في الأعوام القليلة الماضية، إلى اصطفاف السيارات لأيام طوال بهدف الحصول على قليل منه.
هنا يتصاعد التساؤل المهم والمثير “هل لا تزال كوبا تمثل بالفعل خطراً على الولايات المتحدة الأميركية؟ وهل مخططات الاتحاد السوفياتي، تكاد تعود من جديد وتطفو على السطح من خلال تهديدات واضحة تارة ومستترة تارة أخرى عبر التعاون الروسي – الكوبي في الوقت الراهن؟”.
بوتين وتسليح دول خارجية
جاءت تحركات السفن الروسية إلى كوبا في توقيت تشتد فيه الأزمة جراء العمليات العسكرية في أوكرانيا، ففي حين توافق إدارة الرئيس جو بايدن على السماح لكييف باستخدام أسلحة متقدمة، يمكنها تهديد العمق الروسي، خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الملأ بتصريحات تشير إلى نياته بتسليح دول غير صديقة للدوائر الغربية، ما يعني أنه يمكن استخدامها كمخلب قط لمهاجمة دول “الناتو”.
ويعد المسؤولون الأميركيون أن تحركات القطع البحرية الروسية ما هي إلا نوع من استعراض روسي للقوة مع تصاعد التوتر في شأن الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا.
هل هذه السفن ستقوم بزيارة كوبا فحسب؟
واضح جداً أن الجانب الأميركي لديه من المعلومات ما يفيد بأن السفن عينها ستقوم بزيارات إلى موانئ فنزويلا، هناك حيث أنشأت روسيا وجوداً عسكرياً في نصف الكرة الغربي، وهو ما رصده بدقة كبار المسؤولين في إدارة الرئيس بايدن.
هل سيطول المقام بهذه السفن الروسية في البحر الكاريبي؟
الجواب نعم، وغالب الظن أنها ستبقى طوال فصل الصيف، وهو أمر سيشغل البحرية الأميركية التي لم تتلق، كالعادة، إخطاراً من نظيرتها الروسية، إذ جرى العرف أن يتم تبادل المعلومات حول التدريبات والمناورات، تجنباً لأي نوع من الأخطاء غير المقصودة التي يمكن أن تجري بها المقادير، حتى وإن كان القانون الدولي، لا يلزم بذلك، طالما تجري المناورات في المياه الدولية.
والثابت كذلك أن الحضور الروسي في الكاريبي، وبالتحديد في الجزيرة الكوبية، لا يتوقف عند حدود زيارات القطع البحرية العسكرية، ذلك أن هناك ما يبدو محاكاة جديدة لما قام به الاتحاد السوفياتي في ستينيات القرن الماضي، من نشر بضعة آلاف من الدبلوماسيين والمستشارين في كوبا، مما فهمته واشنطن على أنه نوع من الحضور العسكري والاستخباراتي الخفي لمناوشة أميركا، وهو ما يتكرر الآن بالفعل.
ويمكن للقارئ أن يتساءل “هل تواصل السياسات الأميركية الخارجية ارتكاب الأخطاء في محيطها الإقليمي الجغرافي، بالضبط كما ترتكب الأخطاء عينها حول العالم، ولهذا تجد نفسها مضطرة إلى خسارة مربعات نفوذ تقليدية حاولت الحفاظ عليها، لكنها فقدتها جراء أخطاء الساسة وحماقات السياسيين؟
كوبا… العلاقات من أوباما إلى ترمب
عادة ما تدفع العلاقات السياسية الأميركية الكثيرين للتباعد القسري عن واشنطن، وفي ما يخص العلاقات الأميركية – الكوبية يكفي أن يطالع المرء صفحات الستينيات ليدرك حجم الأخطاء التي ارتكبت بهدف إخضاع فيدل كاسترو ووصل الأمر حد التخطيط للغزو وإن فشلت العملية التي عرفت لاحقاً باسم “خليج الخنازير”.
لاحقاً اعتبر كثر من المراقبين للتوترات الأميركية – الكوبية أن غياب كاسترو سيفتح صفحة جديدة، وبالفعل استطاع الرئيس الأميركي باراك أوباما استعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا وخفف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ وقت بعيد، إلا أن الرئيس السابق دونالد ترمب كان في غالب الأمر لا تزال تحكمه عقلية مثيرة رافضة لكوبا ودورها التاريخي في إطارها الجغرافي.
لم يغير بايدن كثيراً من سياسات ترمب تجاه كوبا، فقد أبقى على غالب العقوبات الاقتصادية التي فرضها ترمب سارية، وفي الوقت نفسه طالب كوبا بالإفراج عن السجناء المسجونين بسبب مشاركتهم في احتجاجات واسعة النطاق قبل عامين.
هل كان لكوبا أن ترتمي في الأحضان الروسية ومن جديد، لا سيما أن الجار الأقرب، لم يكن ولن يكون في يوم الصديق الأكبر، الأنفع والأرفع لشعب الجزيرة الذي يعاني الأزمات الاقتصادية من عقود خلت؟
عند المدير التنفيذي لمجموعة “دراسة كوبا” التي تشجع على زيادة المشاركة بين الولايات المتحدة وكوبا ريك هيريرو “يبدو أنه في عهد ترمب ومن بعده بايدن، تنازلت الولايات المتحدة عن هذا المجال”. ويضيف هيريرو “لقد كان هناك تخفيف متواضع للغاية للعقوبات، ويرجع ذلك في الغالب إلى مخاوف إنسانية وفتح السفر والتحويلات المالية وإعادة توظيف السفارة والقنصلية، لكننا رأينا البيت الأبيض غير مهتم بكوبا”.
وتبدو السطور السابقة وكأنها تضعنا أمام حقيقة مؤكدة وهي أنه بعد مرور أكثر من 60 عاماً على المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في شأن الصواريخ النووية السوفياتية الموضوعة سراً في كوبا، يبدو أن الشرق والغرب ما زالا يتنافسان حول من سيمارس قدراً أعظم من النفوذ على الجزيرة، ومن الواضح كذلك أنه على رغم الكلفة الباهظة للحرب في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية التي حلت بروسيا، فإن الكرملين لا يزال ملتزماً وبقوة تجاه كوبا.
على أن السؤال “هل هذا نوع من الالتزام الطهراني الملائكي، ذلك الذي لا يوجد إلا في أفكار الفلاسفة والمصلحين، أم أنه ضرب من ضروب البراغماتية السياسة التي تحفل بها عوالم وعواصم السياسة الأممية وموسكو حكماً ليست خارج هذا الإطار؟”.
موسكو ومحطة تجسس في هافانا
الثابت أنه خلال أزمنة المد السوفياتي في ستينيات القرن الماضي وجدت على الأراضي الكوبية واحدة من أكبر وأهم المنشآت الاستخباراتية السوفياتية عرفت باسم منشأة “لورد سيجينت”، أو “استخبارات الإشارات” وتقع قرب هافانا وتغطي المنشأة مساحة 73 كيلومتراً مربعاً وقد بدأ البناء فيها عام 1962.
في أوج التعاون السوفياتي – الكوبي طوال الستينيات وحتى أوائل التسعينيات كان يعمل بالمنشأة أكثر من 1500 عميل من الاستخبارات السوفياتية “كي جي بي” وعدد وافر آخر من مديرية الاستخبارات الرئيسة في موسكو، عطفاً على عمل مديرية الأمن الكوبي وأطراف من سائر دول الكتلة الشرقية، مما عزز من أهميتها في مواجهة رأس “الناتو”، أي أميركا.
غير أنه من الواضح تفكك الاتحاد السوفياتي والأزمات المالية التي عانتها روسيا ومحاولات بوتين الجادة في الخلاص من الديون التي كانت تكبل أيادي الروس، دفع موسكو للتوقف عن دفع مبلغ 200 مليون دولار، كانت تدفع لهافانا جراء إدارة هذه المنشأة، ولهذا توقف العمل بها عام 2002 تقريباً.
هل من يعيد إحياء الماضي في الوقت الحاضر؟
من الواضح أن أخبار هذه المحطة لم تكن ظاهرة على سطح الأحداث، غير أن زيارة السفن الأربع لهافانا، جعلت كثيرين يقلبون في دفاتر هذه المنشأة وهنا كانت المفاجأة. وكان عام 2014، هو العام الذي قام فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا وفي العام نفسه زار بوتين كوبا وهناك جرى الاتفاق على إعادة تفعيل المنشأة من جديد، فقد كان للرئيس صاحب العقلية الاستخباراتية رؤية استشرافية توقعت بأن الصراع قائم وقادم مع الأميركيين والبداية ظهرت من خلال العقوبات الاقتصادية التي فرضت على موسكو وبوتين. وخلال تلك الزيارة، والعهدة هنا على صحيفة “كوميرسانت” الروسية، أبرم اتفاق مع كوبا لإعادة فتح مركز تنصت إلكتروني كان السوفيات يستخدمونه للتجسس على الولايات المتحدة خلال زمن الحرب الباردة، أي قادة “لورد” عينها.
مثير شأن القيصر ومحير للولايات المتحدة، ففي زمن الضعف، أي عام 2001، كان هو من فكر في إغلاق قاعدة “لورد” خوفاً من عدم قدرة بلاده على سداد كلف تشغيلها، غير أنه لاحقاً، وحينما اشتد العود الروسي مالياً، لم يسع فحسب إلى إعادة فتح القاعدة، بل مضى على ما هو أبعد من ذلك بكثير، فقد شطب 90 في المئة من الديون الروسية المستحقة على كوبا من زمن الحرب الباردة، وكانت تبلغ في ذلك الوقت نحو 12 مليار دولار، مما اعتبر قبلة حياة للتعاون الروسي – الكوبي على الصعيد الأمني والاستخباراتي .
ويكتب الصحافي الاستقصائي الأميركي روبرت ويندريم من شبكة NBC NEWS تحت عنوان “في لورد الهواء مليء بالأسرار”، ويصف هذه المنشأة بأنها أكبر محطة تجسس بناها الروس وأكثرها إنتاجية على الإطلاق، وهي قاعدة متخصصة في “التجسس الهاتفي”، وعنده أنها الجوهرة الأخيرة والأكثر قيمة في تاجهم الإلكتروني، بل إنها تعد النسخة الروسية من شبكة التجسس الغربية ذائعة الصيت المعروفة باسم “إيشلون”.
هل لا تزال محطة “لورد” في مستوى قوتها نفسه كما كانت في زمن الاتحاد السوفياتي؟
يمكن القطع بأنها في الوقت الحاضر بلا شك لم تعد كذلك، ربما من الناحية التقنية، لكن من جانب حضورها اللوجيستي لا تزال تمثل الأذن الروسية الكبرى الوحيدة على أميركا. وهذا المفهوم أكده رئيس الأركان الروسي السابق الكولونيل جنرال ميخائيل كوليستيك، ففي زيارة له منتصف التسعينيات أشار إلى “الحاجة الدائمة إلى محطة لورد للتجسس، سواء بالنسبة إلى موسكو، أو بالنسبة إلى هافانا”، وليس هناك ما يشير إلى أن الروس قد غيروا رأيهم منذ ذلك الوقت وحتى الساعة.
هل “لورد” محطة استخبارات عسكرية وأمنية تهم الروس والكوبيين ضمن هذه الرؤية فحسب؟
بالقطع يبدو أنها باتت تستخدم على صعيد استراتيجي آخر، هو التجسس لأهداف اقتصادية، ذلك النوع من أنواع التجسس التي أضحت لا تقل أهمية عن نظيرتها العسكرية. ولعله من نافلة القول إن الحصول على بيانات تجارية عن المواطنين الأميركيين، أمر يمكن أن يمثل في لحظة بعينها “كعب أخيل” لاختراق حياتهم والمقدرة على تجنيد عديد منهم، الواقعين تحت ضغوط اقتصادية وهذا ما جعل وكالة استخبارات الدفاع الأميركية، تتحسب للدور الجديد القادم لمحطة “لورد” في كوبا.
هل يمكن لرحلات السفن البحرية الروسية أن تكون مجرد بداية للتفكير في أعمال عسكرية روسية قرب أميركا، كما تفعل هي قرب موسكو عبر أوكرانيا، ومن دون الخوف من تهديدات أميركا النووية لكوبا، إذ تطاول اليد المميتة الروسية أوكرانيا وما حولها نووياً أيضاً؟
قاعدة جوية روسية في كوبا
يبدو من الواضح أن موسكو تفكر جدياً في نقل جزء من معاركها إلى الكاريبي لتكون بذلك حاضرة في الخاصرة الأميركية ومشكلة شوكة ما في الجسد الإمبريالي الذي يزعجها قرب حدودها. والتفكير المتقدم أكدته أولغا بوجيفا عبر ما كتبته من خلال صحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس”، قبل نحو عام، وحين كانت بعض قطع البحرية الروسية تتحرك لجهة كوبا أيضاً.
هل يفكر الروس أن تحوي هذه القاعدة على صواريخ يمكنها أن تسبب المخاوف الجسام للولايات المتحدة؟
تحيل الجواب إلى الرئيس السابق لقوات الصواريخ المضادة للطائرات في قيادة القوات الخاصة (منطقة الدفاع الجوي في موسكو) العقيد المتقاعد سيرغي خاتيليف الذي يرى أن كوبا عسكرياً قد تكون في موضع اهتمام روسيا اليوم كعميل محتمل للمعدات العسكرية الموسكوفية، وأنه من الواضح أن الأسلحة السوفياتية القديمة التي تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، لا تزال في الخدمة في الجيش الكوبي ويحتاج الكوبيون إلى تحديثها.
رأي روسي آخر يظهر أهمية مثل هذه القاعدة العسكرية والصاروخية ويعبر عنه العقيد البحري الاحتياط فلاديمير غونداروف الذي يلاحظ أن كوبا محط اهتمام كبير على الخريطة بالنسبة للروس، لا سيما بالنسبة للدوريات الجوية في شمال المحيط الأطلسي ولهذا يقول “الحقيقة هي أن طائراتنا الاستراتيجية يمكن أن تقلع من أولينغورسك في منطقة مورمانسك وتحلق فوق مياه المحيط الأطلسي المحايدة إلى كوبا وتهبط هناك في مطارات ما، وبعد أن تستريح هناك وتتزود بالوقود وتخضع للصيانة، تنتقل إلى بعض البلدان الأفريقية”.
هل العالم من جديد أمام لعبة كراسي موسيقية للنفوذ حول الكرة الأرضية؟
المؤكد أن الإرث الأيديولوجي لفيدل كاسترو لم يمت، كما أن أخطاء “الناتو” في التعاطي مع روسيا، أحيت، من جديد، لدى موسكو مشاعر ستينيات القرن الماضي تجاه الولايات المتحدة، تلك التي أخفقت في أن تكون حاضنة بديلة للكوبيين، في وقت عرف فيه سيد الكرملين كيف يستغل الفرصة لينفذ مرة جديدة إلى العمق الكاريبي.
ما الذي يتبقى قبل الانصراف؟
السؤال التاريخي، والأهم بلا شك، “هل يمكن لبوتين أن ينشر صواريخ وقاذفات استراتيجية نووية في الكاريبي، وربما لاحقاً في بعض المواقع والمواضع من أميركا اللاتينية في مواجهة مخططات بايدن وشولتز في أوكرانيا ورومانيا وبولندا؟
ما الذي يمنع؟ حتى ولو قاد ذلك لتكرار أزمة الستينيات مرة أخرى بين موسكو وواشنطن، مع الأخذ في الاعتبار عينه أن النجاح الدبلوماسي في إخماد حرب نووية المرة الماضية ليس شرطاً أن يتحقق هذه المرة.
دعونا ننتظر لنرى ما الذي ستجري به المقادير.
المصدر: اندبندنت