بقلم: فارس خشان- النهار العربي
الشرق اليوم– فيما كان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يندب حال الجنوب اللبناني بسبب “ما يشهده من قتل متعمد لأهله وتدمير للبلدات وإحراق للمزروعات”، وقف عضو المجلس المركزي في “حزب الله” الشيـخ نبيل قاووق مبتهجاً على منصة تأبين “شهيد سعيد” من قتلى “حزب الله” الذين لامس عددهم سقف الأربعمئة مقاتل، صارخاً: “سيبقى شمال فلسطين أرضاً محروقة طالما الحرائق مشتعلة في غزة”.
هذا المشهد اللبناني السوريالي حيث يئن “خيال الدولة” في واد ويرقص “المهيمن على الدولة” في واد آخر، لا يلخص كل ما يحصل في لبنان فحسب، بل يشرح ما حصل للبنان، منذ سنوات عدة أيضاً!
ولعلّ التعمق قليلاً في استمرار الفراغ الرئاسي في لبنان، يمكن أن يوضح الصورة أكثر!
في لبنان، حالياً، وبعدما زعم الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله عدم وجود أي رابط بين الحرب في غزة والاستحقاق الرئاسي، تتنافس كتل نيابية عدة على لعب دور “تسهيلي” هدفه إزالة العوائق التي تحول دون وصول رئيس جديد للجمهورية إلى قصر بعبدا.
ولاقت الكتل النيابية “المسهّلة” الفشل نفسه الذي سبق أن أسقط مساعي الفرنسيين وسفراء “الخماسية العربية – الدولية” المعنية بلبنان. الجميع تقف دونهم حقيقة واحدة: إرادة “حزب الله”!
يقدم نصر الله لإثبات عدم وجود علاقة بين الاستحقاق الرئاسي وحرب غزة، دليله، عندما يشير إلى أنّ العجز عن إنتاج رئيس جديد للجمهورية سابق لبدء الحرب في غزة.
في ظاهر الحال، يبدو دليل نصر الله قوياً، إذ إنّ ولاية الرئيس ميشال عون انتهت في الحادي والثلاثين من تشرين الأول (أكتوبر) 2002، في حين أن حرب غزة اندلعت في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2003، أي بعد أكثر من سنة، عجزت خلالها القوى النيابية اللبنانية عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ولكن، ما يقفز نصرالله فوقه أنّ حرب غزة لم تكن مطلقاً ابنة ساعتها، بل نتاج تحضير طويل الأمد، بدأ قبل أكثر من سنة ونصف سنة على هجوم حركة “حماس” على غلاف غزة، في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وتحديداً بعدما اكتملت المساعي لإقامة “وحدة الساحات”، وبدء تحضير الأرضية في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق واليمن، من أجل إنجاح هذا المسار الذي وقف وراءه “فيلق القدس” الإيراني. تمهيدات أوصلت، على سبيل المثال لا الحصر، “حركة حماس” إلى قاعة الاجتماعات مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، بعدما كان يتهم “الإسلاميين الفلسطينيين” بالتآمر عليه ويدرجهم في قائمة الإرهابيين.
وكان الموضوع الرئاسي اللبناني في صلب هذه التمهيدات. قبيل انتهاء ولاية عون، وبأفق الحرب التي كان يتم التخطيط لها في غرفة عمليات “جبهة المقاومة”، كان “حزب الله” يتعاطى مع رئاسة الجمهورية المقبلة، وفق معادلة واضحة: رئيس مطواع أو فراغ رئاسي!
ووجد هذا الحزب في رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية مراده، فطرحه على قاعدة: فرنجية أو لا أحد!
كان يعرف أنّ المنازلة ستكون لمصلحة “لا أحد”، إذ إنّ أقرب قوة ناخبة إلى “حزب الله”، أي “التيار الوطني الحر”، تعلن رفضها، منذ مدة طويلة، هذا الخيار.
الفراغ الرئاسي، يعين “حزب الله” في الحرب التي كان يتم التخطيط لها، فدولة مشوبة بعيب الفراغ الدستوري، هي أقرب نموذج إلى الدولة التي تعطي الحزب السلطة الكاملة. لن يكون فيها رئيس ماروني سيتعرض – مهما كان مقرباً منه أو عاجزاً عن التصدي له ـ لضغوط سياسية وروحية وشعبية مناوئة للحرب. ودولة كهذه ستكون فيها الكلمة العليا لرئيس مجلس النواب نبيه بري “المضمون”، في حين أن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي سيكون عاجزاً، إذ إنّ “تمرده” سوف يكلفه “إقامة جبرية” في السرايا الكبيرة، على اعتبار أنّ “الثنائي الشيعي” يضع يده على نصاب مجلس الوزراء الدستوري.
وكل هذا يفيد بأنّ الفراغ الرئاسي هو جزء مكمل لخطة كبيرة كانت قد وضعتها “جبهة المقاومة” من أجل إنجاح “وحدة الساحات”.
وبالفعل، لم يكن قرار إقحام لبنان في حرب “طوفان الأقصى” وليد لحظته، إذ تكشف الوثائق الكثيرة التي انفضح بعضها ولا يزال بعضها الآخر مستوراً، أنّه كان جزءاً من مراسلات “حزب الله” وزعيم “حماس” في غزة يحيى السنوار.
يمكن للبنان الرسمي أن يبكي على ما آلت إليه أوضاع الجنوب، ويمكن للكتل النيابية الطموحة أن تزعم عدم قدرتها على فهم “مخطط الفراغ”، ولكن لا يمكن لهذا أو ذاك أن يضحك على الناس، لأن ّ منابر “حزب الله” كافية لفضح الجميع في اللحظة نفسها، تماماً كما فعل قاووق بميقاتي، أمس!