بقلم: طارق الشامي-اندبندنت
الشرق اليوم– فيما شكلت نتائج انتخابات الاتحاد الأوروبي علامة فارقة للأحزاب اليمينية الشعبوية في القارة بعدما حققت مكاسب قوية في 27 دولة انتقلت رياح القلق من المؤسسة السياسية الأوروبية بسرعة عبر المحيط الأطلسي لتثير تفاؤلاً وإحباطاً في الولايات المتحدة التي تباينت بها التوقعات بين من يرون زلزالاً مرتقباً يحمل الرئيس السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض مرة أخرى، وبين من يستبعدون تأثيراً قوياً في الانتخابات الأميركية نظراً إلى اختلافات أساسية في التحالفات والآليات السياسية بين أوروبا وأميركا، فهل ينذر فوز اليمين في أوروبا بعودة مرتقبة لترمب أم أنه من الصعب الحكم الآن؟
هل يعيد التاريخ نفسه؟
فور الإعلان عن تقدم أحزاب اليمين الشعبوية في انتخابات البرلمان الأوروبي قارن ستيفن بانون الذي قاد حملة ترمب عام 2016 وشغل منصب كبير المستشارين في البيت الأبيض بين نتائج الانتخابات الأوروبية قبل أيام قليلة وقرار الناخبين البريطانيين في يونيو (حزيران) 2016 بمغادرة الاتحاد الأوروبي، إذ كان قرار البريطانيين خطوة تاريخية سبقت انتصار ترمب المفاجئ على المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون بخمسة أشهر فحسب، وهي المسافة الزمنية المتبقية نفسها على الانتخابات الأميركية، ولهذا توقع بانون في “البودكاست” الخاص به تحولاً في الصفائح التكتونية في إشارة إلى زلزال سياسي مرتقب يحمل ترمب إلى البيت الأبيض مرة أخرى.
ما يجعل توقعات بانون منطقية ذلك التشابه بين القومية الشعبوية لأحزاب اليمين المتطرف الأوروبية مع قومية ترمب الشعبوية من حيث العداء للمهاجرين، ورفض سياسات التغير المناخي وازدراء النخب الحاكمة والمؤسسات العالمية والسخط من العولمة والتركيز على التضخم والمعاناة الاقتصادية، وهو ما دفع مات شلاب الذي يدير مؤتمر العمل السياسي المحافظ إلى التأكيد أن ما يحدث في أميركا وأوروبا يعود إلى أن الموضوعات متشابهة بنسبة 80 في المئة، وبخاصة قضية الهجرة التي دفعت ترمب إلى الفوز بالرئاسة الأميركية عام 2016 من خلال تعهده بناء جدار بين الولايات المتحدة والمكسيك للحد من الهجرة.
وإضافة إلى ذلك احتضن ترمب اليمين الأوروبي، وبخاصة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، كما أيد عديداً من الشعبويين المحافظين الأوروبيين في مساعيهم للقيادة في بلدانهم، ويحتفظ بعض مستشاري ترمب بعلاقات مع الحركة اليمينية عبر المحيط الأطلسي.
دروس الإحباط على ضفتي “الأطلسي”
ولا تتعلق أوجه التشابه بين ضفتي الأطلسي بالأجندة السياسية فحسب، بل بالتغير المجتمعي والعرقي والثقافي وفقاً لأندرو غاوثورب المحاضر في جامعة ليدن الهولندية المتخصص في السياسة الأميركية، والذي يرى أن أحزاب الوسط في أوروبا تضعف للسبب نفسه الذي تضعف به في الولايات المتحدة، وهو أن الناخبين من الطبقة العاملة يشعرون بالإحباط بسبب التغيير المجتمعي والعرقي والثقافي.
وعلى سبيل المثال تحول الناخبون الريفيون في أوروبا إلى أحزاب اليمين المتطرف، متجاوزين أحزاب يمين الوسط المعتدلة بسبب الهجرة وقضايا الحرب الثقافية مثلما تحالف الناخبون الديمقراطيون في شمال الغرب الأوسط الأميركي تقليدياً مع الأحزاب اليسارية حول القضايا الاقتصادية قبل أن يتحول قطاع منهم نحو اليمين للأسباب المتعلقة بالهجرة والعرق وقضايا الحرب الثقافية نفسها.
اعتراف اليسار
ويعترف اليسار الأميركي بعلامات الخطر التي قد تطيح الرئيس جو بايدن إلى خارج البيت الأبيض، إذ اعتبرت أليسون ماكمانوس المديرة الإدارية للأمن القومي والسياسة الدولية في مركز التقدم الأميركي، وهو مركز أبحاث ذو توجهات يسارية، أن الرسائل الانعزالية وإثارة غريزة الخوف ومعاداة الأجانب تعد ناجحة بالفعل، فهي تتحدث عن مخاوف الناس واهتماماتهم بطريقة يجدها الناخبون مقنعة، ولهذا لا يبدو صعود اليمين المتطرف في أوروبا منفصلاً عن اليمين المتطرف في الولايات المتحدة، وهناك دروس ينبغي إدراكها من هذه الأطراف على ضفتي المحيط الأطلسي.
وترى سيليندا ليك التي قادت استطلاعات الرأي للرئيس بايدن عام 2020 بأن الأمر مقلق لأن انتخابات الاتحاد الأوروبي تشير إلى أن بعض الناخبين على ضفتي الأطلسي يشتركون في شكاوى مماثلة، كما تظهر النتائج أن الطاقة تحولت إلى اليمين وأصبحت الهجرة قضية حاسمة تعزز الضرورة المطلقة، بينما يركز الديمقراطيون في الولايات المتحدة على الإجهاض الذي لا يعد قضية لدى الأحزاب الأوروبية.
أوجه اختلاف
لكن على رغم نجاح الحملة الانتخابية الأخيرة لليمين المتطرف في أوروبا عبر رسالة تمزج بين كوكتيل سياسي قوي يتمثل في السخط الشعبي إزاء ما يُنظر إليه على أنه هجرة خرجت عن السيطرة وألم الناخبين الذين يواجهون الأسعار المرتفعة والتكلفة التي يتحملها الأفراد في مكافحة تغير المناخ، إلا أن هناك أوجه اختلاف بين الحالة الأوروبية والأميركية، إذ فاز اليمين المتطرف في أوروبا بنحو 20 في المئة فحسب من المقاعد في البرلمان، وليس الغالبية، مما يجعل من الصعب مقارنة فوز ترمب في نظام الحزبين الأميركي، والذي يتطلب غالبية الأصوات في المجمع الانتخابي.
كما أن الأنظمة والممارسات السياسية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مختلفة تماماً، ومن بينها عملية بناء التحالفات المتعددة الأحزاب التي تجري في أوروبا، إذ يمكن للناخبين في عديد من الدول الأوروبية الاختيار بين عدد كبير من الأحزاب عبر الطيف السياسي، وهذا يجعل من السهل على أحزاب اليسار المتطرف واليمين المتطرف الفوز بالسلطة، لكن من الصعب عليهم الحصول على الغالبية، بينما تمكن ترمب في الولايات المتحدة، من السيطرة على الحزب الجمهوري وأعاد تشكيله، وهو مسار مختلف عن الأحزاب الأوروبية، الأكثر اعتياداً على بناء ائتلاف حكومي.
ولا يتأثر الناخبون الأميركيون عادة بنتائج الانتخابات في الدول الأخرى، فقد كان فوز ترمب قبل 8 سنوات يتعلق بأوجه القصور التي تعيب حملة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون أكثر من ارتباطه بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما أن الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي تجري في كل ولاية على حدة، تختلف كثيراً عن تلك الخاصة بالاتحاد الأوروبي.
مستقبل غير واضح
ومن بين الأسباب التي ربما تكون النعمة المنقذة لبايدن هي أن الانتخابات الأميركية ليست مواجهة تقليدية بين مرشح جديد لم يسكن البيت الأبيض ورئيس في الحكم، ذلك أن ترمب، هو نفسه الرئيس الذي يتباهى بإرثه في البيت الأبيض ويحمل أعباء سياسية ثقيلة كرئيس سابق حاول الديمقراطيون وعدد محدود من الجمهوريين إدانته مرتين في الكونغرس تمهيداً لعزله من منصبه الرئاسي.
وعلاوة على ذلك فإن القومية الشعبوية ليست في صعود في جميع الولايات الأميركية، فقد قاد بايدن حملة انتخابية نصفية ناجحة ضد تأثيرات شعار ترمب “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” في الحزب الجمهوري عام 2022.
وليس صحيحاً أن اليمين يتقدم حول العالم، ففي بريطانيا من المرجح أن يعود حزب العمال إلى السلطة الشهر المقبل في اتجاه يخالف الأحزاب اليمينية الصاعدة، كما رفضت بولندا 8 سنوات من الحكم الشعبوي الذي استلهم سياسات ترمب، وفي الهند التي تعد أكبر ديمقراطية في العالم، فاز رئيس الوزراء اليميني ناريندرا مودي بولاية ثالثة بهامش بسيط في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
وحتى في أوروبا لم تحقق جميع دول الاتحاد الـ27 مثل هذه النتائج المثيرة، ولهذا لا يعتقد أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن مايكل ميلر، أن أوروبا غيرت شخصيتها بالكامل وإنما أعادت انتخاب يمين الوسط مع ميل نحو اليمين المتطرف، ومن ثم لم يفز اليمين المتطرف بكل شيء، وحتى في قلب قوة الشعبوية المحافظة في أوروبا، أي المجر، كان هناك استياء متزايد من الحكومة الحالية.
وهناك أيضاً من يرى أن تقدم اليمين في أوروبا لا يعكس بالضرورة الواقع نظراً إلى أن الانتخابات البرلمانية للاتحاد الأوروبي غالباً ما تكون فرصة للناخبين في كل دولة لإجراء تصويت رمزي ضد من هم في السلطة في دولتهم، لأنهم يصوتون للأشخاص الذين سيتولون مناصبهم في الاتحاد الأوروبي وليس في عاصمتهم الخاصة، كما يعتبر التصويت أيضاً بمثابة رد فعل عالمي عنيف تجاه شاغلي المناصب الذين لا يبدو أن لديهم أي أساس أيديولوجي.
تباين ترمب والشعبويين الأوروبيين
من أهم التباينات الرئيسة بين ترمب والشعبويين الأوروبيين سجلاتهم في مجال الديمقراطية، إذ لم يرفض الزعماء اليمينيون في أوروبا نتائج الانتخاب، بينما ما زال ترمب يرفض فكرة أنه خسر الانتخابات التي يقول دوماً إنها كانت مزيفة، وحاول ترمب تعويض خسارته أمام بايدن عام 2020، وبلغت الأزمة ذروتها في هجوم أنصار ترمب يوم 6 يناير (كانون الثاني) 2021 على مبنى “الكابيتول” الأميركي لمنع التصديق النهائي لفوز بايدن.
وكانت هذه نقطة ضعف سياسية بالنسبة إلى ترمب، إذ هاجمه بايدن بلا هوادة، وأشار إلى أنه سيجعل الحفاظ على الديمقراطية جوهر حملته بينما يأمل الديمقراطيون أن تحمي نفس الديناميكية لبايدن هذا العام.
ومن بين التباينات الأخرى أيضاً أن الدعم الأقوى لترمب يأتي من بين الناخبين الأكبر سناً، على عكس الشعبويين الأوروبيين الذين يقول الخبراء إن أداءهم أفضل بين الناخبين الأصغر سناً، وفي النظام الأميركي القائم على الحزبين، ترقى الانتخابات الحالية إلى الاختيار بين بايدن أو ترمب، وقد يقتصر السباق على من هو الأقل كراهية للناخبين وما إذا كان مرشحو الطرف الثالث غير القادرين على الحصول على أية سلطة سياسية في السباق، سيسحبون ما يكفي من الأصوات للقضاء على أحد مرشحي الحزبين الرئيسين.
ولهذا ليس من المحتم أن يفوز ترمب، لكن الجميع سينتظر حتى الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل ليرى الإجابة عبر بطاقات الاقتراع وما إذا كانت الشعبوية المحافظة لها حدودها أم أن رياح التغيير هبت عبر ضفاف “الأطلسي” في أوروبا وأميركا.