بقلم: عقيل عباس – النهار العربي
الشرق اليوم- أُعلن مؤخراً إن العراق سيستضيف في بغداد، العام المقبل، القمة المقبلة الرابعة والثلاثين، بعد تقديمه طلباً في شباط (فبراير) الماضي بهذا الصدد. قد يبدو طلب الاستضافة هذا منطقياً ومعقولاً، على الأخص في كونه يتسق مع تطور الأحداث في العراق، على مدى السنوات القليلة الماضية، نحو المزيد من الإستقرار الأمني وسعي الحكومة الحالية بدمج البلد بالعالم العربي وتجاوز معظم عقدي العداء والارتياب الذي طبع علاقة العراق به بعد إسقاط نظام صدام حسين في 2003. هذا السعي الصحيح بالاندماج، الذي بدأته على نحو جدي الحكومة السابقة برئاسة مصطفى الكاظمي، يحتاج أن يترسخ ويتمأسس من أجل مصالح عراقية عامة، لكن ليس بالضرورة عبر استضافة قمة عربية سيصبح على الأغلب عقدها لحظة أخرى لتنافس سياسي عراقي ولتسجيل نقاط ضد خصوم السياسة في الداخل وتشكيل انطباعات عامة مضللة، كما كان الحال في آخر استضافة عراقية لمؤتمر القمة العربية الثالثة والعشرين في نهاية آذار (مارس) عام 2012.
في ذلك العام، اجتهدت الحكومة العراقية، المحاطة بالمشاكل والتحديات، بزعامة رئيسها نوري المالكي، كي تنعقد القمة في بغداد، وسط تشكيك سياسي عراقي بجدوى عقدها في بغداد وتفضيل لتأجيلها أو تخلي العراق عن استضافتها في الأصل، في وقت كان البلد يدخل فيه في دوامة عنف جديدة ومتصاعدة، تفاقمت بعد الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من البلاد في نهاية 2011، أي بعد خمسة أشهر من هذا الانسحاب الذي احتفت به حكومة المالكي وقدمته على أنه إنجاز وطني على درب الاستقلال والتعافي.
واجه عقد تلك القمة أيضاً الكثير من المصاعب الإقليمية بعد رفض دول الخليج مشاركة زعمائها فيها على خلفية انزعاج حكوماتها المفهوم من تصريحات رسمية عراقية، اعتبرت طائفية المحتوى وتقوم على التدخل السياسي، بخصوص الاضطرابات التي كانت تشهدها البحرين وقتها، فضلاً عن خطاب عراقي شيعي عام مُشكك بالعالم العربي يتهمه فيه بأنه “حاضنة داعمة” لـ”الإرهاب السني” في العراق. كانت الاستضافة العراقية لتلك القمة فاشلة بامتياز، فلم يحضرها إلا عشرة زعماء من مجموع 22 زعيماً عربياً رغم المساعي الحكومية العراقية الحثيثة لحضّ الزعماء العرب على المجيء الى بغداد. من ناحية النتائج العملية، فكعادة كل القمم العربية لم يتحقق أي شيء مما تضمنه بيانها الختامي الذي عُرف بـ”اعلان بغداد”، خصوصاً حديث هذا البيان المسهب عن إصلاح منظومة العمل العربي، في ظل ثورات الربيع العربي المتصاعدة وقتها، كما في تأكيد البيان أن “الإصلاح المطلوب لجامعة الدول العربية يتطلب دعماً مالياً لموازنتها يتمثل كمرحلة أولى في إعادة النظر في هيكلها التنظيمي من أجل تطوير مؤسساتها المتعددة وإعادة تشكيلها وتفعيل أدائها والالتزام بقراراتها…”، أو الإصلاح الآخر في الأفكار والطموحات الذي أشار له البيان بشأن “تبني رؤية شاملة للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي بما يضمن صون كرامة المواطن العربي وتعزيز حقوقه في ظل عالم يشهد تطوراً متسارعاً في وسائل الاتصال، وبما يُلبي مطالب الشعوب العربية في الحرية والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية”. لا يستطيع أحد أن يحاجج أن ثمة تحسناً حقيقياً حصل بهذا الصدد بعد 12 عاماً من تسطير هذه الكلمات.
كما لم تخلُ تلك القمة من إثارة المشاكل العراقية المألوفة بخصوص الفساد، إذ وجهت لجنة النزاهة البرلمانية وقتها تهماً للحكومة بالفساد في النفقات التي صُرفت لعقدها، وتعهدت بنقل الملفات المتعلقة بهذا الفساد المفترض إلى هيئة النزاهة، وهي التهم التي لم يُبت بها بشكل نهائي، لا تأكيداً لمصداقيتها ولا نفياً لها بعد 12 عاماً على توجيهها. كما أنه ليس واضحاً على نحو مؤكد إذا كانت تلك التهم موجهةً حينها لتخريب جو الانتصار السياسي الذي أراد المالكي تحقيقه من عقد القمة، أو أنها كانت جهداً مخلصاً لمنع هدر المال العام، أو أنها خليطٌ من الإثنين، في تأكيد آخر على أن سياق التنافس السياسي العراقي الندي والمحموم لا يسمح بانتصار سياسي مريح لأي طرف على حساب الأطراف الأخرى (وهي المعادلة السيئة التي ما تزال قائمة اليوم، مع اختلاف الأدوات التي تُستخدم فيها الآن).
كان غرضُ الحكومة من عقد تلك القمة التي كلفت الميزانية العامة، بحسب رئيس الوزراء المالكي، نحو نصف مليار دولار، هو إظهار أن العراق بلد مستقر وأن الحكومة فيه قوية وتدير شؤونه بكفاءة. بالطبع لم يكن هذا حقيقياً ولا قابلاً للتصديق، كما أظهرت الأحداث لاحقاً، ففضلاً عن تحديات الأمن الواضحة حينها من تفجيرات ارهابية مستمرة، كان الاضطراب السياسي عالياً في ظل الصراع السني -الشيعي المستعر، (مثلاً، إصدار الحكومة مذكرة القاء قبض بحق نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي قبل ثلاثة أشهر من عقد القمة، وتالياً، بنهاية ذلك العام، ضد وزير المالية رافع العيساوي). ثم كان هناك اندلاع احتجاجات واسعة في مناطق شمال وغرب البلاد ذات الأغلبية السنية التي تحولت إلى صدام مسلح بعدها بعام، عندما حاولت الحكومة فضها بالقوة، وصولاً إلى الكارثة الأمنية التي عاشها العراق بعد عامين من عقد تلك القمة، باحتلال تنظيم “داعش” لمدينة الموصل وخروج ثلث البلاد من سيطرة الحكومة، وانهيار معظم الجيش العراقي، ووصول العراق كبلد إلى حافة التفكك. بازاء كل هذه الصورة المتجهمة قبل استضافة القمة وبعدها، كان عقد القمة في بغداد 2012 مضيعةً للوقت والجهد والموارد، فضلاً عن كونه استثماراً مكلفاً في الوهم حاولته حكومة فاشلة لتسجيل بعض النقاط السياسية لصالحها.
اليوم، مشهد الأمور في البلد مختلف كثيراً مع استتباب الأمن وتجاوز البلد للصراع الطائفي (رغم أن الطائفية لا تزال ورقة سياسية تُستخدم بين الحين والآخر حسب حاجة القوى المهيمنة) وبذل الجهد لإعادة تأهيل البنى التحتية، وإمضاء بعض الإصلاحات في قطاعات معينة كالقطاع المصرفي. مع ذلك، فالعراق بعيد عن الاستقرار السياسي، وعن تماسك الدولة فيه ووحدة القرار فيها، فالصراعات السياسية وأسبابها البنيوية والفئوية والشخصية مختبئة تحت سطح يبدو هادئاً على نحو مضلل، ويمكن أن تنفجر في أي لحظة، كما في الصراع الذي تصاعد بين بغداد وأربيل بخصوص رواتب موظفي الإقليم وإجراء الانتخابات هناك ومعنى الفيدرالية المنصوص عليها دستورياً، قبل أن يتم نزع فتيله مؤخراً عبر عقد صفقة سياسية أخرى لم تتضح معالمها بعد.
ما الذي يمكن أن يستفيده العراق من عقد القمة العربية المقبلة فيه في 2025؟ على الأكثر سيكون المستفيد هي حكومة السيد محمد شياع السوداني في إطار سعيها لإظهار أن استقراراً حقيقياً قد تحقق في عهدها وأنها أنجزت تطبيع العلاقات مع العالم العربي، وهو ما يمكن أن يُقدم كمكسب سياسي في الحيز العام يُضاف لرصيد الحكومة في بلد تشح فيه الإنجازات السياسية والمؤسساتية والاقتصادية الحقيقية والطويلة الأمد التي تخدم المصلحة العامة. وفي ضوء أن العام المقبل سيكون عاماً انتخابياً في البلد، فمن المستبعد ان يسمح خصوم السوداني الحقيقيون وحلفاؤه الظاهريون له بتسجيل نصر سياسي يُحسب لحكومته، خصوصاً إذا تأكد أنه سيخوض الانتخابات البرلمانية.
باستثناء شعور عراقي عام، لكنه عابر، بالفخر والفرح لعقد القمة العربية في بغداد، وهو الشعور الذي ينقضي بعد أيام قليلة من انتهاء القمة، ليس ثمة مصلحة وطنية حقيقية في استضافة مؤتمر قمة لمؤسسة فاشلة كالجامعة العربية. فمثل هذا المؤتمر يمكن أن يفتح شهية المتنافسين السياسيين العراقيين على استخدام مهارات التخريب السياسي، وحتى الأمني إذا اقتضت الحاجة والمصلحة الفئوية والشخصية ذلك، كي لا يحظى الخصم بانتصار مريح قد يُترجم إلى تأثير شعبي وأصوات انتخابية. الاستثمار في العالم العربي عبر العلاقات الثنائية والتنسيق الاقتصادي والسياسي والأمني مع أطراف محددة وفاعلة فيه هو الاستثمار الصحيح، وليس في مناسبة طابعها الغالب احتفائي كعقد مؤتمر قمة عربية.