بقلم: مصطفى رستم- اندبندنت
الشرق اليوم– لم يعد المضيق مجرد ممر يصل بين مسطحين مائيين وحسب، بل بات وبحسب موقعه الاستراتيجي، سلاح ضغط سياسي واقتصادي، يخمد الأزمات عبر تأمين تدفق البضائع والمواد النفطية بسلاسة بين الدول، ويشعل أحياناً فوق مياهه المالحة حروباً ونزاعات مستعصية.
تتفاقم هذه الأيام أزمات الممرات المائية، لا سيما بعد اعتراض جماعة الحوثي في اليمن للسفن المتجهة إلى إسرائيل عبر مضيق “باب المندب”، لتذكر العالم بأمكنة استراتيجية يمكن أن تصنع فارقاً في حروب عسكرية واقتصادية وسياسية، عدا عن سيطرة الممرات المائية على 61 في المئة من إنتاج العالم من البترول والسوائل النفطية تبلغ 58.9 مليون برميل يومياً بحسب تقديرات إدارة معلومات الطاقة الأميركية.
ويفوق عدد الممرات المائية في العالم، الـ100 مضيق لكن أبرز تلك الممرات المائية، قناة السويس، ومضيق جبل طارق، ورأس الرجاء الصالح، ومضيقي البوسفور والدردنيل، وقناة بنما، ولعل هذه المضائق على اختلاف توزعها تستطيع أن تترك تأثيراً واسعاً باتجاه السفن التجارية وحركتها، وحركة التجارة العالمية، وارتفاع أسعار المنتجات والتضخم.
بوابة النفط
ويعد مضيق باب المندب أحد أبرز أهم المضائق المائية الدولية، ويصنف كرابع أكبر الممرات المائية من حيث عدد براميل النفط التي تمر به يومياً، وتصل المسافة بين ضفتي المضيق إلى 30 كيلومتراً، ويقع قبالة سواحل اليمن وجيبوتي وإريتريا، ويربط بين البحر الأحمر وبحر العرب.
وزادت أهمية المضيق الاستراتيجية بعد شق قناة السويس عام 1869 (ربطت البحر الأحمر بالبحر المتوسط) مما جعله أحد أبرز الممرات المائية بعد تدفق الرحلات التجارية عبره بين البلدان الأوروبية والمتوسط والمحيط الهندي مع شرق أفريقيا، ويعتبر طريق أيضاً في غاية الأهمية للمنتجات الأوروبية إلى الأسواق الدولية.
وزادت أهمية “باب المندب” مع الاكتشافات النفطية في الخليج العربي، مما جعله ممراً مائياً تجارياً مهماً على صعيد سرعة نقل النفط، والتبادلات التجارية بين أوروبا وآسيا، ويقدر سنوياً عدد القطع البحرية من سفن عابرة منه، نحو 25 ألف قطعة تقريباً. ويعبر خلاله نحو 4.8 مليون برميل يومياً من النفط الخام والمنتجات البترولية بحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية في مقياس عام 2018، من بينها 2.8 مليون برميل تتجه شمالاً إلى أوروبا.
ويمر المضيق اليوم بأزمة نزاع بعد اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر (تتشرين الأول) 2023 وعلى أثرها سدت جماعة الحوثي اليمنية حركة السفن المتجهة إلى إسرائيل عبر المضيق.
وقال الباحث الأكاديمي بمجال الاقتصاد السياسي، رضوان مبيض إن “تعطل الملاحة البحرية قد يدفع بالسفن التجارية وناقلات النفط إلى تغيير اتجاهها نحو رأس الرجاء الصالح، ما يعني زيادة بين ثلاثة وأربعة أسابيع في مدة الرحلة، وهذا يعني زيادة في كلفة الشحن، ولعل انعكاساته الاقتصادية لن تترك تأثيرها فقط على الدول الأوروبية أو العربية، التي يمثل البحر الأحمر موقعاً استراتيجياً لها، بل حتى على اليمنيين، إذ يمثل المضيق المصدر الأساس المغذي لاقتصاد البلاد”.
ورأى الباحث أن “أزمة المضيق لا تعدو كونها مسرح عمليات تخضع للتجاذبات السياسية وورقة ضغط قد تتراجع بحسب الدور المطلوب منها، فقد تنخفض حدتها أو ترتفع بوجه السفن المارة، لكن الأمر ينعكس على الاقتصاد العالمي وعلى أسعار النفط”.
وبالعودة إلى تاريخ مضيق “باب المندب”، الذي اكتسب أهمية كبرى بعد شق قناة السويس، فإنه استخدم كورقة ضغط سابقة في حرب أكتوبر عام 1973، حيث أغلقته سفن وغواصات البحرية المصرية وعطلت حركة مواصلات السفن التجارية المتجهة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي.
و”كان لإغلاق مضيق باب المندب من قبل الغواصات المصرية في الحرب دور جوهري ومؤثر في الحرب المصرية- الإسرائيلية” وفق إحاطة نشرت في المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط للواء في الجيش المصري، أشرف لبيب.
الشحن التجاري
لعب مضيق هرمز دوراً دولياً وإقليمياً مهماً في التجارة الدولية، ورزح تاريخياً تحت الوصاية البرتغالية، ومعظم الدول الأوروبية، لا سيما بريطانيا، نظراً إلى موقع المضيق الاستراتيجي وعدته طريقاً رئيساً يصل إلى الهند. ويبلغ عرض المضيق 50 كيلومتراً وعمقه 60 متراً فقط، يقع في منطقة الخليج العربي ويعد فاصلاً ما بين مياه الخليج من جهة، ومياه خليج عمان وبحر العرب والمحيط الهندي من جهة أخرى، وهو منفذ بحري وحيد للعراق والكويت وقطر، بينما تطل عليه من الشمال إيران.
وتشكل الممرات المائية مثل “مضيق هرمز” (أو باب السلام) و”مضيق باب المندب”، و”قناة السويس”، ممرات نقل للشحن التجاري وناقلات النفط في العالم، وتمثل مجتمعة روابط حيوية تربط بين الخليج والبحر الأحمر والبحر المتوسط، لا سيما مضيق هرمز الذي يربط الدول المنتجة بالنفط في الخليج العربي بمصافي التكرير بالعالم.
ويمر من خلال مضيق هرمز أكثر من ثلث صادرات النفط العالمية البحرية، إذ يستوعب نحو 30 ناقلة نفط يومياً. وتصدر السعودية عبره نحو 88 في المئة من إنتاجها النفطي، مقابل 99 في المئة للإمارات، و98 في المئة للعراق. أما إيران والكويت وقطر فتصدر كامل صادراتها النفطية من خلاله بحسب المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية. وتعد اليابان والصين وكوريا الجنوبية والهند وسنغافورة، أكبر مستوردي النفط المار عبر المضيق وفقاً لإدارة الطاقة الأميركية.
في المقابل برزت حادثة جنوح السفينة “إيفرغيفن” إحدى أكبر سفن نقل البضائع في العالم، التي يصل طولها إلى 400 متر في قناة سويس في مارس (آذار) 2021، إذ أدت إلى تعطيل حركة المرور بين البحر الأحمر والبحر المتوسط بعد مرورها بأجواء عاصفة ترابية لأيام. وفي أعقاب هذه الحادثة ارتفع سعر خام برنت وقتها بنحو ثلاثة في المئة، وهي حوادث تكررت في أعوام سابقة، حين توقف حركة المرور في قناة بنما بعد تفشي فيروس كورونا بين العمال. وكذلك توقف مرور السفن في مضيق البوسفور بسبب كثافة الضباب.
المضائق مواقع للحروب
في غضون ذلك، ينظر الباحث الأكاديمي رضوان مبيض إلى تحول المضائق والممرات البحرية في العالم إلى أداة من أدوات الحرب. وأضاف أنه “أنه ليس بالأمر المستغرب فهي كانت تاريخياً محط نزاعات إقليمية ودولية، ولكن اندلاع الأزمات الدولية اليوم وبخاصة الحرب الروسية- الأوكرانية، وما يلوح بالأفق من حرب روسية- أوروبية وأميركية، يشي بأنه سيكون للمضائق المائية دور كبير فيها”.
ويعتقد الباحث أن “اتجاه الولايات المتحدة نحو استمالة تركيا سببه دورها المحوري والسعي إلى انتزاعها من مجال روسيا، علاوة على موقعها الاستراتيجي المطل على البحر الأسود، وامتلاكها مضيق البوسفور”. وأشار إلى “أهمية الممرات المائية في الحرب الاقتصادية، التي إن دارت رحاها بالمستقبل ستكون أكثر فتكاً من الحرب العسكرية”، بحسب رأيه.
ومع تباين الآراء في شأن ما يحدث من عرقلة للملاحة البحرية، بين من يعتبرها قرصنة ومن يشرعن هذا الإجراء، تبقى الأضرار الضخمة التي تلحق بأسعار المنتجات عالمياً نتيجة ارتفاع كلفة الشحن، وارتفاع أسعار المشتقات النفطية وغلاء أثمانها، في وقت حسم المجتمع الدولي العلاقة القانونية عبر اتفاقية قانون البحار عام 1982، التي تشير إلى حق المرور لجميع السفن ما دامت عملية المرور لا تضر بسلم الدولة الساحلية أو بأمنها.