بقلم: راغدة درغام- النهار العربي
الشرق اليوم– حذار الاسترسال في مخيّلة التنبؤ بانهيار العلاقة الأميركية – الإسرائيلية الاستراتيجية، نتيجة الخلافات الراهنة حول اقتحام رفح الذي يصرّ عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في وجه الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يعارض الاقتحام خشية من كارثة إنسانية حتمية ومجزرة للمدنيين الفلسطينيين الذين شردتهم إسرائيل من شمال غزة إلى جنوبها قسراً، وعددهم يقارب مليون ونصف مليون نسمة.
هناك تبعات، بالتأكيد، لعملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وأطلقت حرباً إسرائيلية انتقامية هستيرية بشراستها كشفت عمق الكراهية الإسرائيلية الشعبية للفلسطينيين، وليس فقط نحو “حماس” وأمثالها.
هناك تغيير حتمي آتٍ في هيكل الحكم في غزة وتداعيات على هذا القطاع الذي بات على شفير الإلغاء ستطال المعادلة الديموغرافية ما بعد التهجير القسري. ثم هناك خريطة إقليمية لافتة تفرزها التطورات الميدانية، وكذلك السياسات الأميركية المتخبطة بين دبلوماسية الاسترضاء والإرضاء لكل من إسرائيل وإيران، وبين ضغوط يسارية ويمينية على الرئيس بايدن تؤرق أركان حملته الانتخابية.
تهديد بايدن بتعليق شحنات أسلحة أميركية إلى إسرائيل تطور لا سابقة له، لكنه لن يصبح نقطة تحوّل في العلاقة الأميركية – الإسرائيلية الاستراتيجية التي تتوتر لكن لن تنهار. هذا أولاً. ثانياً، حرص الرئيس الأميركي على أمر فريقه بمواصلة العمل مع إسرائيل “لإلحاق هزيمة دائمة” بحركة “حماس”، فيما أكد أن الولايات المتحدة لم تتخذ قراراً نهائياً بشأن شحنة القنابل التي سبق أن استخدمت إسرائيل نوعيتها في قتل المدنيين.
فإذا نفّذت إسرائيل، كما تتوعّد وكما هو مُتوقَّع، اقتحام رفح لتدمير البنية التحتية لحركة “حماس” وقتل قادتها، فستصعّد إدارة بايدن من نبرة التهديد، بل ستنفّذ تعليق شحنات القنابل، لكنها لن تتخلى عن إسرائيل وهي تخوض حرباً ضد “حماس” التي تصنّفها الولايات المتحدة حركة “إرهابية” وتحمّلها مسؤولية الحرب التي بدأتها في 7 تشرين الأول.
إدارة بايدن ارتكبت أخطاءً عدة وهي الآن تدفع الثمن. الرئيس الأميركي وقع في اللحظة “الأوبامية” منذ البداية. فريقه تسرّع إلى الاعتقاد أن في رحم حدث 7 تشرين الأول (أكتوبر) فرصة لإدارة بايدن رعاية التسوية الكبرى في الشرق الأوسط بالذات عبر التفاهم الأميركي – الإيراني. ذلك التفاهم شكّل أولوية لفريق بايدن الذي استرخى في دبلوماسية الاسترضاء لإيران ـ رغم نشاطات أذرعها ضد المصالح والمواقع الأميركية – ودبلوماسية الإرضاء لإسرائيل رغم تدميرها المنهجي لغزة لتحويلها إلى “ملعب فوتبول” وتهجيرها قسراً أكثر من مليون فلسطيني مدني إلى حيث تنوي اليوم إبادتهم في رفح، لأن لا مكان أمامهم ليهربوا أو يلجأوا إليه.
الضعف والتردد وأسلوب الترقيع الأميركي قد تكون ساهمت في احتواء رقعة الحرب وعدم توسعها إلى حرب إقليمية بين إيران وإسرائيل، بالمباشر أو عبر لبنان. لكن أسلوب الحلول الموقتة واعتماد الترتيبات الانتقالية سياسة لإدارة بايدن إنما ساهما في الوصول إلى حيث نحن. فلقد خسرت إدارة بايدن فرصة صنع التاريخ التي كانت تأمل بها، أو تسرّعت إلى الحلم بها من دون رسم خريطة طريقة حازمة إليها.
بين أبرز أخطاء إدارة بايدن هو وقوعها في الفخ الذي نصبه يحيى السنوار، القائد العسكري لحركة “حماس” والدماغ وراء عملية “طوفان الأقصى”. عنوان هذا الفخ هو: الرهائن. السنوار اعتبر أن الضعف البنيوي الإسرائيلي هو أمام اختطاف رهائن إسرائيليين لأنه يفتح الباب للتفاوض معها. وفي هذه الحال أراد السنوار أن يقايض الرهائن الإسرائيليين بالسجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
فريق بايدن وقع في فخ التفاوض مع حركة “حماس” التي تصنفها الولايات المتحدة “إرهابية” ـ علماً أن الموقف الأميركي الرسمي هو عدم التفاوض مع إرهابيين – وذلك عندما ارتكب خطأً فادحاً ساهم في وصول الأمور إلى ما هي عليه الآن. قرر وزير الخارجية أنطوني بلينكن وفريقه أن يضعا إطلاق سراح الرهائن لدى “حماس” في أعلى سلّم الأولويات، وبذلك ربطا مصير الرهائن بوقف النار.
إدارة بايدن شرعنت التفاوض مع من تعتبرها منظمات إرهابية، لأن المفاوضات التي جرت من أجل وقف النار لم تتم فقط مع “حماس” بل أيضاً مع “حركة الجهاد الإسلامي” و”الجبهة الشعبية” التي شاركت في المحادثات الرامية إلى هدوء موقت Pause لتبادل الأسرى بين الجانبين. هذا الخطأ الكبير سيرافق حملة بايدن الانتخابية، لأن اليمين الأميركي والمنظمات اليهودية ستستخدمه ضدها.
الحملة الانتخابية للرئيس السابق دونالد ترامب لن تتراخى مع ما تعتبره استخدام فريق بايدن للرهائن كسلعة في المفاوضات مع “حماس”، لا سيما أن مواطنين أميركيين بينهم. في نهاية الأمر، لقد لبّى الرئيس جو بايدن حركة “حماس” بالتفاوض معها على الرهائن الذين اختطفتهم في 7 تشرين الأول، فهذه كانت استراتيجية السنوار منذ البداية. حلمه كان فرض التفاوض على إسرائيل. ما حدث كان “بونس” لأن التفاوض على الرهائن كان أيضاً مع إدارة بايدن، وإن لم يكن بالجلوس معاً إلى الطاولة.
قبل الانتقال إلى مسائل مهمة أخرى في سلسلة الأخطاء والتداعيات، يجدر القول إن بنيامين نتنياهو يبدو مضطراً وعازماً على اقتحام رفح، في معادلة تبدو أنها “خسارة بخسارة” وليس “ربحاً بربح”، بما في ذلك المغامرة بأرواح الرهائن لدى “حماس”. إسرائيل لن تتمكن من “تحرير” الرهائن عبر عملية عسكرية، لأن هؤلاء الرهائن ليسوا في مكان واحد بل إنهم مُوزَّعون على مواقع عدّة، وبالتالي فإن العمليات الإسرائيلية الضرورية عند اقتحام رفح ستؤدي على الأرجح إلى قتل الرهائن لدى “حماس”.
ليس أمام نتنياهو وحكومة الحرب الإسرائيلية خيار آخر، إذا ما أُغلِقت صفحة المفاوضات حسبما بات وشيكاً، سوى تنفيذ عملية عسكرية وحشية وهمجية لأن لا مناص من كارثة إنسانية رهيبة ومجزرة إلغاء لأكثر من مليون ونصف مليون من المدنيين الفلسطينيين العالقين في رفح والمندمجين في البنية التحتية لحركة حماس. يُتردد الآن أن الاقتحام سيتم هذا الأسبوع بكل ما سيرافقه من نقمة عالمية على إسرائيل ومن ازدياد التوتر مع الولايات المتحدة الأميركية، وذلك لأن لا خيار آخر أمام نتنياهو وحكومة الحرب الإسرائيلية سوى هذا الخيار السيئ أيضاً لإسرائيل برهائنها وبنظرة العالم إليها.
لربما فازت “حماس”، بحسب اعتقادها، على إسرائيل في معركة الرأي العام الدولي الذي انقلب الآن على إسرائيل فيما كان ضد “حماس” في 7 تشرين الأول. لكن إسرائيل هي التي حققت لنفسها هذا الانقلاب وحققت لـ”حماس” هذا “الانتصار”، بسبب ممارساتها الوحشية والإبادية ضد المدنيين، وليس بسبب عزمها على سحق “حماس”.
في المقابل، إسرائيل قدّمت إلى “حماس” فوزاً لأنها بإجراءاتها جعلت الحركة تبدو أقل إرهابية من إسرائيل. كلتاهما حققت فوزاً عابراً.
كلتاهما، إسرائيل و”حماس”، فازتا بسحق حل الدولتين، فانتصرت كل منهما في تحقيق عقيدتها الأساسية. كل منهما الجلاد، في هذا الإطار، وليس الضحية.
فالضحية هي فلسطين والفلسطينيون، وهذا فوز دائم وليس عابراً للشريكين العقائديين في رفض حل الدولتين. وها هما يتعاونان بخبث في تحويل الأردن إلى الوطن البديل للفلسطينيين. كلاهما دمّر غزة.
الخطر الآن ليس فقط على الضفة الغربية والأردن، بل هو أيضاً على لبنان الذي قرر “حزب الله” تحويله إلى ساحة مباحة للفصائل الفلسطينية، ونذر نفسه لخدمة إيران ومصالحها، ونصب الشعب اللبناني رهينة لإيران والفصائل الفلسطينية بذريعة المقاومة.
محور المقاومة نجح للأسف في تفتيت فلسطين وإنهاء القضية الفلسطينية: شكراً “حماس”. مصير محور المقاومة قررته “حماس” في 7 تشرين الأول. ذلك أن ما أنجزه “طوفان الأقصى” هو التشريد القسري للفلسطينيين والتأهيل الغامض للمشردين في لعبة قبيحة بامتياز، وهذا ليس نصراً لمحور المقاومة لأن “طوفان الأقصى” أعاد الاحتلال الإسرائيلي لغزة وفشل في إنهاء احتلال إسرائيل لفلسطين.
جزء مما هدفت إليه عملية “طوفان الأقصى” كان عرقلة مسيرة التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل بقرار من “حماس”، كما بإيماءة من إيران. صحيح أن مشروع التطبيع الأكبر وهو بين السعودية وإسرائيل قد توقف حالياً نتيجة 7 تشرين الأول بكل تداعياته الإسرائيلية والفلسطينية. لكن الصحيح أيضاً هو تطور العلاقات الأميركية مع الدول الخليجية العربية بما لا تستسيغه الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
فهناك اليوم اتفاقيات أمنية تمت وتُصاغ بين الولايات المتحدة والسعودية والإمارات وغيرها ترافقها صفقات أسلحة مهمة. هذا هو التغيير النوعي، ليس فقط بين واشنطن والعواصم الخليجية العربية، بل هو أيضاً تغيير يقارب النقلة الاستراتيجية في موازين العلاقات الأميركية مع إسرائيل والدول العربية الخليجية.
حتى العلاقة الأميركية مع قطر وتركيا لافتة لجهة وطأتها على علاقة الدولتين مع “حماس”. وكل هذا مهم لأنه عكس ما كان يشتهيه شركاء “طوفان الأقصى”.
لن تكون هناك خريطة طريق إلى شرق أوسط جديد ما دام البيت الأبيض في تخبط بين طيّات إجراءات رمزية وانتقالية وترقيعية بلا سياسة ثابتة وبلا حزم. قد تريد “حماس” التباهي بإنجاز آخر لها على حساب الفلسطينيين وهو أن “طوفان الأقصى” الذي حقق لإسرائيل التشريد القسري للفلسطينيين ودماراً هائلاً في غزة وآلاف الضحايا الأبرياء قد نجح في تعرية “البايدانية” الممتدة من “الأوبامية” التي تحسن فقط الاحتواء المرحلي لا صوغ السياسات الكبرى الدائمة.