بقلم: حسن إسميك- النهار العربي
الشرق اليوم– بدأتُ هذه السلسلة تحت عنوان عريض هو “هل تجاوزت المسيحية فعلاً تاريخها الطويل من الخلاف والصراع؟”، والإجابة عن السؤال “هل” في اللغة العربية بسيطة جداً، إما نعم أو لا، لكنها قد لا تكون بهذه البساطة عندما نتحدث عن الدين أو عن السياسة أو عن العلاقات بين الدول أو عن الحرب. فللإجابة عن هذا السؤال، كان لا بدّ من العودة بالتاريخ إلى أكثر من ألفي عام مضت، وتتبُّع المسيحية منذ نشوئها، وعبر مراحل تطورها، وانشقاقاتها وانقساماتها، الكبير منها والأصغر، الرئيس والفرعي، وكيف كانت في بعض الأحيان سلمية، لا تحمل تأثيرات كبيرة، وكيف تحولت في أحيان أخرى إلى حروب طاحنة أودتْ بحياة ملايين البشر.
وفي حديثي السابق عن الدين عندما أُشهر السلاح في أوروبا، استعرضتُ حروباً على امتداد نحو قرن، بدَأتْهُ الإصلاحات اللوثرية التي أوجدت تياراً قوياً منافساً للكنيسة الكاثوليكية منشقّاً في الأصل عنها. قرنٌ مزّقت حروبه القارة وشعبها، وتركت وراءها ملايين القتلى والمصابين، ودولاً متداعية اقتصاداتها منهارة.. في خضمّ هذه الفوضى، برزت أصواتٌ تنادي بالسلام، فقد ضاق الناس ذرعاً بالحرب، وباتوا يبحثون عن سبيلٍ لإنهاء هذا الصراع المُدمِّر.
تُوّجت الجهود الساعية إلى السلام باتفاقية وستڤاليا التي وُقِّعت عام 1648، والتي تعدُّ في نظر جميع المشتغلين في الفكر والسياسة والتأريخ، علامة فارقة في تاريخ العلاقات الدولية والعمل الدبلوماسي، وفي تاريخ أوروبا، وبالتالي العالم. فقد كانت ثورةً دبلوماسية/فكريةً هزّت أركان النظام القديم، وأوجدت مبادئَ رائدة في ذلك الزمان، فتحت الباب أمام نظام عالميّ جديد قائم على السلام والعدالة والمساواة والسيادة الوطنية.
معاهدة وستڤاليا: سلامٌ بعد عقود من الحرب
اجتمع ممثلون عن الدول الأوروبية في مدينتي مونستر وأوسنابروك الألمانيتين للتفاوض حول معاهدة سلام تُنهي الحرب. لم تكن مهمتهم سهلة، فقد استمرت المفاوضات لسنوات، وظهرت خلالها العديد من العقبات والتحديات. لكن في النهاية، وتحديداً عام 1648، تم التوصل إلى اتفاقية سلام تاريخية عُرفت باسم معاهدة وستڤاليا.
كان لهذه المعاهدة تأثيرٌ هائلٌ على أوروبا، إذ بالإضافة إلى أنها أنهت “حرب الثلاثين عاماً” الدموية، فقد كرّست مبدأ سيادة الدول، وسمحت بحرية الدين للجميع. كما ساعدت على إعادة الاستقرار إلى القارة، لتثبت قدرة الدول على التعاون والتغلب على خلافاتها من أجل تحقيق مصلحة مشتركة أكبر، ورغم أنها لم تُنهِ كل الحروب في أوروبا، لكنها مثّلت خطوةً مهمةً نحو السلام والاستقرار.
بالعموم، هناك جدلٌ حول العلاقة بين هذه المعاهدة وعصر التنوير، وتميل الكفة لمصلحة من يرى أن الأمرين منفصلان، وأن المعاهدة حدثٌ سياسي بينما عصر التنوير حركة فكرية أو طريقة مختلفة للنظر إلى العالم، قوامها الأفكار الجديدة في العلوم والفلسفة، ووجهات النظر المستحدثة حول العقل والدين. لكنني لا أستطيع إلا أن أتلمّس ترابطاً –كبيراً وعضوياً – بين الأمرين، وأن أرى في المعاهدة حدثاً تاريخياً ذا تأثير عميق على عصر التنوير الذي تزامن معها وتلاها. فلقد ساعد النظام الدولي اللاحق لوستڤاليا على إتاحة بيئة مواتية لانتشار أفكار التنوير. كما أن حرية الدين والمعتقد أسهمت في تراجع التعصب الديني وظهور ثقافة التسامح والتنوع الفكري، يُضاف إلى ذلك تركيز وستڤاليا على حلِّ النزاعات من خلال التفاوض والدبلوماسية بدلاً من العنف، الأمر الذي دفع نحو تعزيز ثقافة الحوار والتفكير العقلاني، وهذه إحدى أهم خصائص عصر التنوير، ولا أظنّ أن المعاهدة كانت غائبة عن أذهان كثيرين من فلاسفة ذاك العصر، مثل جون لوك وفولتير ومونتسكيو الذين استندوا إلى مبادئ سيادة الدول والتسامح الديني في صياغة أفكارهم..
عصر التنوير والكنيسة
يتطلب الحديث الوافي عن عصر التنوير كُتباً ومجلدات ضخمة، ورغم حجم الأدبيات التي تناولته بالدراسة والبحث، فإن إمكان الكتابة عنه يظلُّ قائماً، واستخلاص الجديد منه يظلُّ ممكناً، فقد كان ثورة سياسية واجتماعية وثقافية كبرى، أسّست للقيم الحديثة للمجتمعات مثل الديموقراطية والتسامح وحرية التعبير، وأسهمت بالغ الإسهام في تشكيل الحضارة الغربية الحديثة، وفي ما قدّمته للحضارة البشرية ككل.
وعصر التنوير، بإيجاز شديد، هو حركة فكرية وفلسفية نشأت في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، تميزت بالتركيز على العقل والمنطق والتفكير العلمي، وبالتأكيد على حقوق الإنسان الأساسية مثل الحرية والمساواة. روّاده كُثُر، في العلم والفلسفة والأدب والفكر السياسي والقانوني والاجتماعي، من أشهرهم: فولتير، جان جاك روسو، جون لوك، ديفيد هيوم، إسحاق نيوتن، كارل لينيوس، أنطوان لافوازييه، مونتسكيو، ماري وولستونكرافت، توماس بين، رينيه ديكارت، جان بودان، يوهان غوته.. وغيرهم مئات.
وإذا كان هناك من مبدأ يشتهر به عصر التنوير شهرة كبيرة، فهو من دون شك “العلمانية”. لقد كانت أوروبا تعيش حالة من الحكم المطلق، يقوم على قوتين: الدولة (الملكية) والكنيسة. ففي ذلك الزمن، وكما شهدنا على امتداد مختلف الأجزاء السابقة من هذه السلسلة، كان الملوك والكهنة يرقصون رقصةً معقدة على مسرح السياسة – إذا جاز التعبير ـ فبينما كان الملوك يُلوّحون بسيوفهم لفرض الولاء على رعاياهم، كانت الكنيسة تُغنّي الترانيم التي تُمجّد سلطة هؤلاء الملوك وتُبرّر تسلسلها الهرمي. كان الله، في نظر الكنيسة، هو من يمنح الملوك سلطتهم، ليُصبحوا نوابه على الأرض، وكان الملوك سعداء جداً بهذه “الثيوقراطية”.
صحيح أن هذه العلاقة كانت تمرّ أحياناً ببعض الانتكاسات، وكانت النزاعات بين الكنيسة والدولة تُعكّر صفوها، مثلما حدث في قصة انفصال الملك الإنكليزي هنري الثامن عن الكنيسة الكاثوليكية، ولكن، عموماً، كانت العلاقة متينة، ومعززة بالمصالح المشتركة.
ومع مرور الوقت، وتطوُّر العلم وتسهيله لانتشار الأفكار الجديدة، كان لا بدّ من ظهور أصوات من خارج السرب تُشكّك في صحة التحالف بين العرش والكنيسة، فبدأ المفكرون بالكشف عن عيوب هذه العلاقة، بخاصة أن أغلبهم اعتبر الدين سبباً للصراعات والحروب، وذهبوا إلى أن من واجب الدول أن تبتعد عن الشؤون الدينية، والعكس صحيح. وبعد نحو مئة عام من الحروب الدموية باسمه، لم يعُد الدين دافعاً مقبولاً للحرب، وبدأ قبول حرية العبادة ينتشر.
كان فولتير مثلاً من أشدّ منتقدي هيمنة الكنيسة، حتى على الدين، فالعلاقة بين الإنسان والله لا تحتاج وسيطاً برأيه، ولا يتطلب الأمر كهنة يفكُّون شفرة الإيمان، الله موجودٌ في كل مكان حولنا، في عظمة الخلق وروعة الطبيعة، ولا حاجة إلى كلمات معقّدة لفهم عظمته.
وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، أصبحت فكرة فصل الدين عن الدولة فكرةً لا مفرّ منها. فكان هذا الفصل بمثابة فجر جديد، مهّد الطريق لمستقبلٍ مختلف، تراجعت فيه مكانة الكنيسة وتقلصت سلطتها وسطوتها، فخلا من أي حروب كبرى تندلع باسم الدين أو بزعم الدفاع عنه.
لا حروب مقدسة في العصر الحديث..
لم يخلُ عالم ما بعد وستڤاليا من التوترات الدينية وأعمال العنف بين المسيحيين، ولا يزال بعضها يحدث في بعض أجزاء العالم حتى اليوم. ومع ذلك، يمكن القول إن الحروب الواسعة النطاق ذات الدوافع الدينية التي اجتاحت أوروبا لقرون عدة انقرضت تماماً ولم تعُد موجودة اليوم. وهذا ما يؤكد أن وستڤاليا أسهمت حقاً في وضع حدّ للصراعات الوحشية التي تكررت في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وتأسس مبدأ cuius regio, eius religio (وهو نسخة مشابهة لمبدأ في أرض الأمير دين الأمير)، أي أنه يمكن للحكّام اختيار دين دولتهم، ويمكن للرعايا أن يهاجروا إذا اختلفوا. ورغم أن هذا المبدأ غير منطقي وغير مقبول بمفاهيم عصرنا، لكنه كان محاولة أولى وخطوة غير مسبوقة لإدارة الاختلافات الدينية من دون حرب.
كذلك، أدّت مُثُل التنوير وصعود الحكومات العلمانية إلى فصل المجال السياسي عن السلطة الدينية تدريجياً، وقد قلّل هذا من قدرة الزعماء الدينيين على التحريض على الحروب، ناهيك بأن غياب السلطة كهدف تسعى إليه الكنائس وتُحارب من أجله وتستخدمه في فرض نفسها على الناس، دفع العديد من الطوائف المسيحية إلى تغيير خطابها بالكامل، والانتقال إلى التأكيد على التقبّل والتعايش السلمي، مع تركيز التعاليم الدينية على المحبة والتسامح بدلاً من الهيمنة وإساءة استخدام السلطة.
حروب معاصرة قد تبدو دينية.
كثيرةٌ هي الحروب التي نشبت بين المسيحيين أو على أرض “مسيحية” إذا جاز التعبير في العصر الحديث، والحربان العالميتان مثال واضح وجليّ، لكن لا يمكن وَسْمها بأنها حروب دينية على الإطلاق، فقد كانت سياسية بحتة. في المقابل، هناك بعض الحروب التي كان من الممكن إطلاق صفة الدينية عليها، فقد تداخل فيها الديني بالقومي بالسياسي إلى حدّ بات فيه التفريق بينها أمراً صعباً وغير ممكن. وأبرز مثال على هذه الحروب كان في أيرلندا الشمالية.
حرب الثلاثين عاماً الجديدة
منذ عام 1968 إلى عام 1998، عاشت أيرلندا الشمالية صراعاً طائفياً عنيفاً عُرف باسم “الاضطرابات”، اشتعلت نيرانه بين فئتين: الاتحاديون (الموالون) وأغلبهم من البروتستانت الذين رغبوا في بقاء المقاطعة جزءاً من المملكة المتحدة؛ والقوميون (الجمهوريون)، ومعظمهم من الكاثوليك الذين سعوا إلى دمج أيرلندا الشمالية مع جمهورية أيرلندا، أي إلى استقلالها عن التاج البريطاني. وكان الجيش البريطاني، وشرطة أولستر الملكية (RUC)، وفوج الدفاع أولستر (UDR) من أهم الفاعلين الآخرين في هذا الصراع، إذ تمثَّلَ دورهم المعلن في حفظ السلام، وبخاصة بين القوات القومية، مثل الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA) الذي اعتبر الصراع حرب عصابات من أجل الاستقلال الوطني، والقوات شبه العسكرية الوحدوية التي اعتبرت عدوان الجيش الجمهوري الأيرلندي إرهاباً.
استُخدمت أساليب عنفيّة كثيرة في هذه “الاضطرابات” مثل قتال الشوارع، والتفجيرات، وهجمات القناصة، وحواجز الطرق، والاعتقال من دون محاكمة. ونتيجةً لذلك، قُتل نحو 3600 شخص، وجُرح أكثر من 30 ألفاً آخرين.
في عام 1998، اتّفقت حكومتا المملكة المتحدة وأيرلندا على حلّ سلميّ للصراع، ووقّعتا ما يُعرف باتفاق “الجمعة العظيمة” الذي أوجد ترتيبات لتقاسم السلطة في جمعية أيرلندا الشمالية في ستورمونت، لتُطوى بذلك – إلى حدّ ما – صفحةٌ مظلمةٌ من تاريخ أيرلندا الشمالية.
جذور هذه الاضطرابات عميقة جداً في التاريخ الأيرلندي، تتشابك مع نسيج الأحداث التي شكّلت هوية الجزيرة، منذ أواخر القرن الثاني عشر، عندما هبطت جيوش الغزو الأنغلو نورماندي على شواطئ أيرلندا، مُفتتحةً حقبة جديدة من التغيرات والتحديات، فقد أدى هذا الغزو إلى موجات متتالية من الاستيطان البريطاني. وعلى مدار ثمانية قرون تالية، فرضت إنكلترا، ثم بريطانيا العظمى، سيطرتهما على الشؤون الأيرلندية، كما أدى استعمار ملاك الأراضي البريطانيين إلى نزوح جماعي لملاك الأراضي الأيرلنديين، تاركين وراءهم إرثاً من المرارة والاستياء.
وفي أوائل القرن السابع عشر، ظهرت “مزرعة أولستر” في أقصى شمال الجزيرة، كمشروع استيطاني ضخم يهدف إلى كسر شوكة التمرد الأيرلندي. ضمّت هذه المزارع مستوطنين إنكليزاً وإسكتلنديين، ما أدى إلى تغيير ديموغرافي هائل في المنطقة. ومع مرور الوقت، نشأ صراع هوية عميق بين المستوطنين البروتستانت والسكان الأيرلنديين الأصليين الكاثوليك: تمسك المستوطنون بهويتهم البريطانية، بينما سعى الأيرلنديون إلى تحرير أنفسهم من الهيمنة البروتستانتية وتحقيق الحكم الذاتي أو الاستقلال الكامل، فأصبحت أولستر رمزاً للانقسام بين الشمال البروتستانتي والجنوب الكاثوليكي. وقد أدّى هذا الانقسام إلى صراعات مُتكررة، كان أحدثها “الاضطرابات” الآنفة الذكر.
ورغم الاتفاقية، لا يزال إرث الاضطرابات حاضراً في أيرلندا، وكذلك التوترات حول قضايا مثل الإسكان والتعليم والرموز الوطنية، ما يُشكّل تحدياً مستمراً لبناء السلام والمصالحة..
الأرثوذكسيون أيضاً يتحاربون
في مثال أقرب وأحدث على الحروب التي يمكن وصفها بالدينية، وبالتحديد في 24 شباط (فبراير) 2022، شنَّت روسيا عملية واسعة النطاق ضدَّ أوكرانيا، بدءاً بحشد عسكري ضخم على الحدود الأوكرانية، ثم الاعتراف بـ”جمهورية دونيتسك الشعبية” و”جمهورية لوغانسك الشعبية” المعلنتين من جانب واحد، وأخيراً دخول القوات الروسية إلى منطقة دونباس، في ما عدّه البعض أوّل حرب دينية في القرن الحادي والعشرين. ورغم أن الجانب البراغماتي السياسي هو الأبرز من بين جوانب هذه الحرب، فإن اعتقادهم هذا له بعض المبررات، بخاصة أنّ كيريل، بطريرك موسكو، قد صوّر الحرب في إحدى خطبه المتزامنة مع بدايتها على أنها صراع “من أجل الخلاص الأبدي” للعرق الروسي.
بالنسبة إلى المراقب الخارجي، قد يبدو أن الدولتين تتبعان لكنيسة واحدة، وقد غمز بوتين من هذه القناة في أحد تصريحاته، حيث قال إن أوكرانيا “جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وفضائنا الروحي”. يعكس ادّعاء بوتين هذا تفسيراً شائعاً لتاريخ المسيحية الأرثوذكسية في روسيا، يقول إن الروس والأوكرانيين هم شعب واحد ينحدر من المملكة المسيحية نفسها التي ظهرت إلى الوجود عندما اعتنق الأمير فلاديمير الأول أمير كييف المسيحية عام 988، وأنشأ مملكة متديّنة انحدرت منها الدولتان. وما يعترض عليه الأوكرانيون هو التجاهل المتعمد لتاريخهم الطويل من الاستقلال، وبالتالي، هويتهم المستقلة غير الملحقة أو التابعة لروسيا وكنيستها.
تحدثتُ سابقاً عن جذور الكنيسة الأرثوذكسية في أوروبا الشرقية، وكيف حاولت روسيا بعد سقوط القسطنطينية أن تظهر بمظهر الوريث الوحيد للكنيسة المسيحية “الحقيقية” المتبقية في العالم، ما جعل الأبرشيات الأرثوذكسية في أوكرانيا تحت سلطتها. اعتبر الكثير من الأوكرانيين هذا الأمر بمثابة احتلال ديني، وبخاصة مع محاولات موسكو فرض اللغة والثقافة الروسيتين على أوكرانيا. ومع تزايد الوعي القومي الأوكراني في القرن التاسع عشر، ظهرت رغبة في إنشاء كنيسة أوكرانية مستقلة عن موسكو، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، نالت أوكرانيا استقلالها السياسي، ما عزّز الرغبة في استقلال ديني أيضاً، لكن لم يُصغِ أحد لنداءاتها.
في أعقاب ثورة الميدان الأوروبي في كييف عام 2014، عادت نغمة الاستقلال الكنسي لأوكرانيا إلى الظهور بقوة، وتقدّم بطريرك كييف فيلاريت بطلب إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لمنح كنيسة أوكرانيا الاستقلال، لكن طلبه قوبل بالرفض. لم يثنِ ذلك فيلاريت عن عزمه، ففي خطوة تحدّ جريئة، أسّس كنيسة أرثوذكسية مستقلة في أوكرانيا من دون موافقة موسكو، وبدأ بدعوة الأبرشيات في كل أنحاء البلاد إلى تغيير ولائهم. ردّت موسكو بحرمان فيلاريت كنسياً وتعيين بطريرك لأوكرانيا في مدينة خاركيف الشرقية.
وبحلول عام 2018، أدرك الرئيس الأوكراني آنذاك بيترو بوروشينكو الأهمية السياسية للصراع بين الكنائس، فقام بتنظيم عريضة إلى البطريرك المسكوني برثلماوس الأول، ليُعيد بذلك إحياء صراعات تاريخية عريقة بين موسكو والقسطنطينية حول الهيمنة على العالم الأرثوذكسي. وافق برثلماوس على طلب الاستقلال الذاتي لأوكرانيا، وبارك تأسيس كنيسة أرثوذكسية مستقلة في البلاد. وقد أدى ذلك إلى قطع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية العلاقات مع البطريركية المسكونية.
لم يكن هذا الصراع مجرد صراع ديني، بل كانت السياسة متغلغلة فيه إلى العمق، فانشقاق كنيسة كييف عن كنيسة موسكو ليس إلا تعبيراً عن إرادة أوكرانيا بأن تكون مستقلة استقلالاً كاملاً عن روسيا، وأن تكون لها هويتها الوطنية، بما في ذلك الدينية، المميزة والخاصة وغير التابعة لأحد. والعكس بالعكس، فقد استخدمت روسيا العامل الديني لتقول إن حربها محقّة، وإن أوكرانيا ليست إلا جزءاً من المجال الحيوي الروسي لا يحق له أن يتصرف وفق إرادته، وبخاصة إذا كان في ذلك تهديد لمصالح روسيا. وهذا ما ظهر واضحاً بعدما بدأ بوتين الحرب عام 2022، واستخدم الدين ليُظهر أن حربه مقدسة، وليحشد الناس خلف سياساته.
بالطبع، هناك جدل دائماً حول توصيف هاتين الحربين، وغيرهما من الحروب الحديثة، على أنهما حربان دينيتان، إذ يُلاحظ أنه إلى جانب وجود تيار يؤيد هذه الفكرة ويروّج لها، هناك أيضاً من يقول إن الحرب في أيرلندا أهلية قومية، وإن حرب أوكرانيا أساسها الأطماع والمصالح فقط. لكن إمكان توظيف الدين لمصلحة السياسة، واستخدامه مبرراً لأي حرب، يجعلنا دائماً نُعيد التفكير في العلاقة الجدلية بين الدين والسياسة، وبينه وبين الحرب، وهو مبرر أيضاً لكي نسأل: بما أن مبدأً مثل مبدأ “الحرب المقدسة” ما زال موجوداً، ويُستخدم في القرن الحادي والعشرين في حروب بين أتباع دين واحد، هو المسيحية في هذه الحالة، وبين دول تُصنَّف – إلى حدّ ما – على أنها “متقدمة”، وما زال هناك من يستطيع استخدام الدين لأهداف سياسية، وبما أن التيارات المتطرفة تزداد قوة وحضوراً على المشهد السياسي الاجتماعي العام، هل يعني كل هذا أن الحروب الدينية بين المسيحيين لا تزال ممكنة، ويمكن أن تشتعل وتتجدد في أي لحظة؟
سأترك الجواب النهائي عن هذا السؤال إلى المقالة القادمة، الجزء الأخير والختامي من هذه السلسلة.
يتبع!