بقلم: فاروق يوسف – النهار العربي
الشرق اليوم- “ما مر عام والعراق ليس فيه جوع”، ذلك سطر مقتطع من قصيدة بدر شاكر السياب الشهيرة “أنشودة المطر” كاد يتحول إلى واحد من الأقوال المأثورة في العراق لولا الانتعاش الاقتصادي الذي شهده العراق سبعينات القرن الماضي، وبالضبط بعد قرار الحكومة تأميم النفط والاستغناء عن خدمات الشركات الأجنبية العاملة فيه عام 1972.
كان ذلك القرار ثاني أكثر القرارات جرأة في تاريخ العراق السياسي بعد قرار الحكم الذاتي في كردستان (1970) الذي كان مؤملاً أن يكون فاتحة استقرار بعد سنين من الحروب التي لم يجن الأكراد منها شيئاً. لقد أنجزت حكومة “البعث” الفتية بعد انقلابها الذي وقع في 1968 في زمن قياسي ما لم يكن العراقيون يتوقعون حدوثه بعد عقد من الاقتتال الحزبي الذي غلبت عليه الشعارات الفضفاضة، فيما كان في حقيقته تجسيداً لروح القسوة التي كانت الشخصية العراقية تتماهى معها في الحالات التي تضعف فيها الدولة وتسود الفوضى. أما وقد أثبتت حكومة “البعث” أنها قادرة على إعادة الهيبة إلى الدولة التي استعادت صدقيتها الوطنية وقوتها من خلال قرار التأميم، فقد صار العراقيون حريريي الخطى وهم ينعمون بما كانت خطط التنمية تخلقه من فرص التعليم والعمل والإسكان وسواها من الخدمات التي أحدثت نقلة مهمة في حياتهم.
وليس من باب التبسيط إذا قلنا إن العراقيين أمسكوا يومها للمرة الأولى في حياتهم بحقيقة أن بلادهم التي حبتها الطبيعة بمختلف أنواع الثروات لا يمكن أن يجوع سكانها. صحيح أن “البعث” وقد طبق نظريته في الاشتراكية قد خلق دولة ثرية وشعباً ليس ثرياً، غير أن ذلك الشعب كان يتمتع بمختلف الخدمات المجانية التي لا تصون كرامته وحسب، بل أيضاً تعلي من شأنه.
السخرية من الجياع
“لا يوجد جائع واحد في الشعب العراقي. ومَن لا يستطيع شراء كيلو لحم يستطيع شراء كيلو عظم”. ذلك ما كتبه أحد الكتاب المعتمدين من النظام الطائفي الحاكم الآن. بين ثنايا ذلك القول الوقح يكمن اعتراف صريح بأن الجوع بين العراقيين صار ممكناً ومرحباً به. سيكون علينا أن نقيم مقارنة بين الأجداد والأحفاد. حين انتهى الأجداد من مسألة الجوع أدركوا أن عراقاً لا يجوع سيكون في إمكانه أن يغادر مكانه في العالم الثالث ليحل مرحباً به على مضض في العالم الثاني على الأقل. كان ذلك حلماً حطمته الحروب. الحرب العراقية الإيرانية أولاً وحرب الكويت ثانياً وأخيراً الحرب التي انتهى فيها العراق محتلاً عام 2003. أما الأحفاد فإنهم لا يملكون أملاً. لن ينقذهم السلام من حالة الوهن الذي صاروا يعيشون تجلياته والتي يمكن اختزالها باندثار الطبقة الوسطى وبروز الفوارق الطبقية الهائلة بين طبقتي الأغنياء والفقراء. فحسب الإحصاءات الرسمية التي هي ليست دقيقة أو منصفة دائماً تبلغ نسبة الفقراء في العراق الآن 31%، الجزء الأكبر منهم وقع تحت خط الفقر رغم أن ثروة العراق الآن لا تُقارن بثروته في سبعينات القرن الماضي، غير أن غياب الدولة، وبخاصة أجهزتها الرقابية، فتح الباب على مصراعيه لنشاط الكتل والأحزاب المتنفذة في الاستيلاء على تلك الثروة والحيلولة دون الاستفادة منها في خطط التنمية أو التوزيع الريعي االسائد في دول نفطية أخرى. لقد ظهر شبح الجوع ثانية، لكن ظهوره هذه المرة جاء عن طريق الاستدعاء وليس استجابة لأوضاع قاهرة.
جوع غير مسبوق نوعياً
وبعكس ما هو مطلوب من (حكومات منتخبة) قامت على أنقاض نظام شمولي جرده الحصار الشامل الذي فرض على العراق بعد احتلال الكويت منتصف عام 1990 حتى عام 2003 من أي هامش للحركة من أجل إنقاذ الوضع الاقتصادي المنهار، فقد نجحت الطبقة السياسية التي وُضعت على رأس السلطة بعد الاحتلال في تقييد حركة الحكومات المتتالية داخل دائرة خدمة مصالحها. ذلك ما كشفت عنه البرامج الحكومية التي تخلو من أي إشارة إلى خطط للتنمية، تهدف إلى النهوض بالاقتصاد الوطني ومنع الفقر من توسيع دائرته التي صارت تجذب إليها كل سنة أعداداً متزايدة من العاطلين من العمل أو من ذوي الدخل المحدود الذين التهم التضخم قدرتهم الشرائية. وهو ما يعني أن هناك جوعاً غير مسبوق في العراق صارت الحكومة عاجزة عن إخفائه، وهو ما حدا بمهرجيها الإعلاميين إلى السخرية من ضحاياه الذين صار عليهم أن يسدوا حاجتهم إلى اللحم باللجوء إلى التهام العظام. تلك السخرية غير المسؤولة تشير إلى تخلي الطبقات الفاسدة عن حماية الحكومة والتغطية عليها والاكتفاء في وضعها في خدمة مصالحها. وهو ما يعيدنا إلى سيناريو عام 2019 يوم وُضعت حكومة عادل عبد المهدي في مواجهة الجماهير الغاضبة التي خرجت إلى الشوارع محتجة على تردي الخدمات. ذلك ما يمكن أن يُسمى بـ”نحر الحكومة” التي بالغت في عماها فانتحرت. فإذا كان العراق قد شهد عام 2019 انتقاضة الخدمات، فإنه قد يشهد في أي لحظة ثورة للجياع.
استعراض من غير وعود
“الجوع والسلامة” معادلة قد لا تكون مضمونة دائماً. في وقت سابق قُمعت انتفاضة العاطلين من العمل عن طريق ممارسة العنف وصولاً إلى قتل أكثر من 700 شاب. غير أن الحكومة سقطت يومها وتخلى عنها النظام الذي اضطر يومها إلى اللجوء إلى العلاج الأميركي من خلال حكومة مصطفى الكاظمي. لكن الدروس التي تعلمها النظام من تلك التجربة قد تقف حائلاً دون الدفع بحكومة السوداني أو سواه إلى ممارسة العنف في حق الجياع إذا انتفضوا. في المقابل، فإن السخرية من الجياع لا تمثل إلا سلاح العاجز الذي اندفع في طريق اللاعودة. وهو ما يعني أن أي حركة احتجاجية تقوم في العراق قد تؤدي إلى سقوط النظام برمّته ولا تقتصر على إزاحة حكومة، صار الجميع على دراية بأن موهبة رئيسها لا تتجاوز حدود الاستعراض المقيّد بخلوّه من الوعود.