بقلم: عادل بن حمزة- النهار العربي
الشرق اليوم– دخلت منطقة الشرق الأوسط فصلاً جديداً من التصعيد بعد تنفيذ طهران لوعدها بضرب اسرائيل، وهي التي كانت تفضّل دائماً محاربة تل أبيب بأذرعها في المنطقة في ما يسمّى محور المقاومة. طهران التي ردّت إلى الآن بهجوم محتشم يندرج في إطار رفع العتب والإحراج بعد استهداف قنصليتها في دمشق، لم تحرّك ساكناً منذ أشهر لنصرة الفلسطينيين في غزة رغم أنّ عدد الشهداء تجاوز 35 ألف شهيد وشهيدة، ناهيك عن الدمار الذي حول قطاع غزة إلى منطقة لا تصلح للعيش.
الهجوم الإيراني “الخفيف” جاء في فترة كان يعيش فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي أقصى درجات العزلة بخاصة من قِبل حلفائه الغربيين، وبعد أن أصبح للرأي العام الدولي تأثير كبير على القادة الغربيين في ما يتعلق بالموقف من الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها القوات الإسرائيلية في غزة بشكل غير متوازن، مع ما تواجهه اليوم فعلياً من تهديد مصدره غزة. فالنتيجة العكسية للهجوم الإيراني هي بتحويل الوضع في غزة ليكون خبراً ثانوياً، إضافة إلى تقديم إسرائيل بوضعية الضحية واستعادتها للدعم الغربي غير المشروط، فضلاً عن نجاح سرديتها في ما يتعلق بكون إيران تمثل تهديداً وجودياً لها.
منذ بداية الحرب على غزة، ظهر أنّ إسرائيل تتحرّك بغطاء سياسي وعسكري شامل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا. وظهر منذ الساعات الأولى لاندلاع الحرب، بوضوح، أنّ أهداف إسرائيل غير المعلنة أبعد من مجرد القضاء على “حماس”. وفي المقابل، أظهرت الإدارة الأميركية بشكل واضح أنّها لا تريد للحرب على غزة أن تتحوّل إلى حرب إقليمية، خصوصاً تدخّل إيران وحلفائها في ما يُعرف بـ”محور المقاومة”. ولعلّ تحريك حاملة الطائرات “جيرالد فورد” إلى شرق المتوسط وتعزيزها بحاملة طائرات ثانية هي “يو أس أس دوايت أيزنهاور” كما أعلنت وزارة الدفاع الأميركية، كان الغاية منه هو تقديم أقصى إشارات الردع للأطراف الإقليمية حتى لا تتدخّل.
ويبدو أنّ سلاح الردع الأميركي أعطى نتائج جيدة حول حدود الهجوم الإيراني، فإيران منذ اندلاع فتيل الحرب وهي تهدّد وتتوعّد إسرائيل. صرّح بذلك مرشد الثورة علي خامنئي ورئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي، وأكّده وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان خلال مؤتمر صحافي في بيروت عقب لقاء مع الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، إذ قال إنّ “على إسرائيل التوقف عن جرائم حربها فوراً لأنّه بعد ساعات عدة سيكون الأمر متأخّراً جداً”، مضيفاً أنّ “حزب الله جهّز سيناريوات تصعيد عديدة ستسبّب هزة أرضية في إسرائيل”.
لا يهمّ إن كان اللهيان يتحدث من بيروت ويهدّد بحرب مع إسرائيل من بلد يفترض أنّ له سيادة وبعيد بآلاف الكيلومترات عن إيران، بما يعرّض لبنان إلى ما هدّدت به إسرائيل من إرجاعه إلى العصر الحجري. الوزير الإيراني اجتمع في اليوم ذاته في بيروت مع مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط ثور وينسلاند، وكرّر تهديدات إيران بالتدخّل.
هذه التصريحات والرسائل التهديدية مرّت عليها شهور، عرف فيها القصف الإسرائيلي لغزة عنفاً أكبر، وتصاعدت الأزمة الإنسانية لتصل إلى المجاعة، ودمّرت المستشفيات والمدارس والبيوت، وأصبح التهجير يتخذ مساراً جدّياً. عموماً يمكن القول إنّ غزة تمّت إبادتها بالكامل، فأين الساعات التي تحدث عنها عبد اللهيان؟
المتابع للأحداث يعرف أنّ واشنطن وتل أبيب على طرفي نقيض في ما يتعلق بالنظر إلى إيران، ففيما ترى فيها إسرائيل تهديداً وجودياً، ترى الولايات المتحدة أنّها حصان يمكن ترويضه ولو مرحلياً. نستحضر هنا معارضة إسرائيل الشديدة لخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، وهي ما يُعرف بـ”الاتفاق النووي” الذي وقّعته الإدارة الأميركية على عهد باراك أوباما مع إيران بتاريخ 14 تموز (يوليو) 2015، بمشاركة كل من الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا إضافة إلى ألمانيا.
وصف بنيامين نتنياهو الاتفاق حينذاك بـ”الخطأ التاريخي”، واعتبر كثير من السياسيين والأمنيين الإسرائيليين أنّ ذلك الاتفاق من شأنه تعزيز موقع إيران، بخاصة في الجوانب العسكرية التقليدية مثل الصواريخ البالستية، إضافة إلى اليقين بأنّ طهران سوف توظف عائدات رفع العقوبات لتشديد الطوق على إسرائيل عبر حلفائها في سوريا ولبنان وغزة، بل أنّ بعض التقديرات الإسرائيلية ذهبت إلى أبعد من ذلك، عندما اعتبرت أنّ استمرار البرنامج النووي المدني في إيران من شأنه أن يمكّن إيران في نهاية المطاف من امتلاك السلاح النووي حتى لو تحقق ذلك بعد 10 أو 15 سنة.
لذلك استمرت إسرائيل في استهداف الكونغرس الأميركي لإسقاط الاتفاق النووي، وهو ما تحقّق مع إدارة دونالد ترامب والتزمت به إدارة جو بايدن إلى اليوم رغم كل المحاولات التي قام بها الأوروبيون. خلافاً لذلك كان رأي بعض كبار رجال الموساد الإسرائيلي (آموس يادلين، إفرايم هاليفي) أنّ الاتفاق النووي سيؤخّر سعي إيران إلى امتلاك السلاح النووي، وهو أمر يتحقق بأقل كلفة، في إشارة إلى تجنّب حرب مع طهران.
على العموم، أظهرت أزمة البرنامج النووي الإيراني أنّ واشنطن وتل أبيب ليست لهما أجندة متطابقة في التعاطي مع التهديد الإيراني. تكرّر هذا الأمر في الاتفاق الأخير بين واشنطن وطهران الخاص بإطلاق سراح 5 سجناء أميركيين في مقابل حصول إيران على 6 مليارات دولار من أموالها المجمّدة في إطار العقوبات الأميركية. ظهرت واشنطن من خلال هذه الخطوة الجديدة في اتجاه إيران أنّها تسعى لتحييد طهران أو على الأقل دفعها إلى اتخاذ مواقف متوازنة لا تسعى إلى التصعيد في بؤر النزاع في المنطقة.
وقد ظهرت الرؤية الأميركية بشكل واضح منذ الساعات الأولى لعملية “طوفان الأقصى”. ففي وقت كانت إسرائيل تتهم إيران بشكل واضح وصريح بتورطها في التخطيط وفي قرار الهجوم، كانت واشنطن تسعى بكل جهدها لإخراج إيران من دائرة الاتهام، فوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن كان قد صرّح بأن لا دليل لدى واشنطن على ضلوع إيران في الهجمات المباغتة والواسعة النطاق التي شنّتها حركة “حماس”، قائلاً: “في هذه الحالة بالتحديد، ليس لدينا أيّ دليل على ضلوع مباشر في التخطيط لهذا الهجوم أو تنفيذه”، وهو التقييم ذاته الذي خلصت إليه وزارة الخارجية الأميركية، رغم أنّها تركت الباب مفتوحاً أمام احتمال تورط إيران.
نستخلص ذلك مما صرّح به المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، عندما قال في تصريح صحافي: “خبرتنا في هذه الأمور تفيد بأنّ من السابق لأوانه استخلاص أي استنتاجات نهائية في هذا الشأن”. وأضاف: “سننظر في معلومات استخبارية إضافية في الأيام والأسابيع المقبلة لمعرفة ما إذا كان لدى البعض في النظام الإيراني صورة أوضح عن العمليات المقرّرة أو أنّهم ساهموا في جوانب التخطيط”.
يمكن القول إنّ واشنطن تحاول دفع إيران وأدواتها في المنطقة، بعيداً من الحرب المفتوحة على كل الاحتمالات في غزة، سواءً من خلال الجزرة المتمثلة في الصفقة المربحة التي ضخّت 6 مليارات دولار في خزائن نظام مفلس ويعاني من حصار طويل، أم من خلال العصا، وتتمثل في حاملات الطائرات الأميركية في شرق المتوسط، والتي بلا أدنى شك ستتدخّل بشكل مباشر كلما تدخّلت إيران في الحرب، سواءً عبر جنوب لبنان أو الجولان السوري أم بشكل مباشر. في المقابل، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، يبدو أنّ تل أبيب استعجلت التدخّل الإيراني لاختبار التهديد الوجودي الجدّي الوحيد الذي ستواجهه في المنطقة في العقود المقبلة. وقد أظهرت طهران عجزها عن إلحاق الضرر الكبير الذي طالما توعّدت به قياداتها الروحية والعسكرية تل أبيب، بل إنّ الأمر أصبح مؤكّداً اليوم بحكم العوائق الجغرافية التي لا تسمح بالمواجهة بين طهران وتل أبيب من دون تدخّل طرف ثالث، ففي الحالة الإيرانية قد يكون الهجوم الجدّي على إسرائيل أمراً مستحيلاً مستقبلاً، بحكم تدخّل حلفاء إسرائيل وبُعد المسافة، وكذلك الأمر إلى حدّ كبير بخصوص إسرائيل.
مع رشقة المسيّرات والصواريخ التي أطلقتها إيران مساء السبت الماضي باتجاه أهداف في إسرائيل، نتساءل، هل نجحت إسرائيل في كسر الصبر الاستراتيجي لإيران والإنتقال إلى حرب إقليمية قد تكون فيها نهاية نظام آيات الله؟ أم أنّ إيران أدركت أنّه لا يمكن دخول المواجهة مع إسرائيل بعيداً من محور المقاومة بخاصة “حزب الله” وما يواجهه من إكراهات في ظل واقع لبناني أكثر تعقيداً…