بقلم: عبدالحميد توفيق- العين
الشرق اليوم– تدرك موسكو أن سوريا تشكل أحد التحديات الاستراتيجية المهمة التي تواجهها.
فالتصدي لهذا التحدي ونجاحه سيحدد ويثبّت مقومات وعوامل قوتها على الساحتين الدولية والإقليمية، بعد أن برهنت على دورها وفاعليتها في تحقيق جانب من أهدافها في معادلة الصراع السورية، إضافة إلى أنه يسهم في تكريس سياساتها وحساباتها على المستويات كافة.
بالمقابل، تعلم موسكو أنه دون تحقيق هذا البرنامج الاستراتيجي الكثير من المعوقات والعراقيل؛ جزء منها داخلي سوري، وآخر خارجي إقليمي – دولي.
الوضع الداخلي السوري بجميع بناه، وركائزه، وقطاعاته، يعيش معاناة غير مسبوقة بسبب الحرب التي تجاوزت أكثر من 13 عاما، وآثارها المختلفة، وهو ليس غريباً أو بعيداً عن بصر روسيا وبصيرتها، ومعرفتُها بشؤون الوضع الداخلي وشجونه، تكاد تكون دقيقة لكل تفاصيله.
أما على المسارح الإقليمية والدولية، فلا تتوانى موسكو في دعم الملف السوري. الملف الاقتصادي يمثل التحدي الأكثر تعقيدا وصعوبة أمام الكرملين وسياساته بعيدة المدى في سوريا؛ فهو مرتبط ارتباطاً عضوياً بالملف السياسي ومتطلباته الدولية وفقا للقرار 2254، والتضخم الهائل ضرب أركان الاقتصاد السوري، والقوة الشرائية للعملة المحلية انحدرت لمستويات قياسية، فضلاً عن خروج غالبية القطاعات الإنتاجية للبلاد، الزراعية والصناعية والسياحية والنفطية عن سيطرة وإدارة الدولة السورية، وبالتالي تعطلت دورة الاقتصاد المحلي.
كل ذلك في ظل تحديات تراكمت على مدار سنوات الحرب وأدت إلى تآكل البنى التحتية لجميع القطاعات الرسمية والخدمية والتنفيذية للدولة .
مساحات شاسعة من البلاد بحاجة إلى إعادة إعمار. وإعادة الإعمار أبعد ما تكون عن متناول اليد حتى الآن بسبب الجمود في شرايين العملية السياسية من جانب؛ فلا اللجنة الدستورية أفلحت في تحقيق خطوة إلى الأمام، ولا مسارات التفاوض الأخرى، من آستانا إلى سوتشي إلى الكثير من المنصات الموازية؛ أمكنها بلورة قواسم مشتركة ولو في حدها الأدنى بين السوريين لرسم ملامح مسار تفاوضي يستند إلى أسس الاستمرار وإن بشكل متقطع. ومن جانب آخر، العقوبات الواسعة المفروضة على سوريا، التي تكبل أي تحرك نحو هذه الأهداف.
على المسار العسكري تواجه موسكو، كما دمشق، تحديات متفرعة ومتعددة؛ بعضها في إدلب، وبعضها في جزء من أرياف اللاذقية وحماة، وكذلك في جيوب صحراوية وسط البلاد لتنظيم داعش الإرهابي، علاوة على الوجود التركي في مناطق الشمال السوري، والوضع الناشئ في شرق الفرات، والوجود الأمريكي، وكذا الحال بالنسبة للوجود الإيراني في مناطق متفرقة من البلاد.
موسكو التي اقتنصت عام 2015 فرصة الساحة السورية لتفعيل حضورها على مسرح الأحداث الإقليمي والدولي؛ حققت الكثير من غاياتها الاستراتيجية جراء هذا الانخراط السياسي والعسكري، لكن ما حققته حتى الآن لا يمنحها طمأنينة نهائية، فالمطلوب أن تتمكن من تحويل مكاسبها الميدانية إلى ثمار سياسية من خلال توظيف ثقلها الدبلوماسي والسياسي لتثبيت الاستقرار الداخلي لسوريا دولة ومجتمعا، وإلا فقد يتحول الواقع القائم عبئا على كاهلها، وربما يتسبب باستنزافها إن لم تتمكن من وضع نهايات حاسمة للصراع وتبعاته يمكّنها من الانتقال إلى مرحلة الإسهام الفعلي في بناء هياكل راسخة ودائمة للدولة السورية، خاصة مع تجذر مصالحها وتحديدا في مدن الساحل السوري وما يعنيه ذلك من متنفس لها في المياه الدافئة، وتحريك أساطيلها وحركتها التجارية ، وهذا يقتضي حتما تفاهمات واتفاقات مع جميع اللاعبين الإقليميين والدوليين المنخرطين في الصراع السوري بحيث تضمن مصالحهم على تنوعها واختلاف أجنداتها.
لا بد لموسكو من أن تعمل باستراتيجيات متعددة في الآن الواحد؛ أبرزها المشاركة الفعلية مع القيادة السورية في صياغة واقع وهيكل سياسي جديد في سوريا يؤهلها للعودة إلى المسرحين العربي والدولي، وهو ما تعلنه موسكو رسميا وتؤكده بأنها تأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول العربية في سوريا ولأجل سوريا، ويلقى موقفها هذا ترحيبا وصدى إيجابيا لدى الدول العربية التي تعمل من أجل حاضر سوريا ومستقبلها من خلال سياقات سياسية ودبلوماسية واقتصادية، إضافة إلى ضرورة مواصلة الجانب الروسي العمل مع تركيا لإنهاء مشكلة الإرهاب في إدلب، والوصول إلى اتفاق حول وجودها في الشمال السوري، وكذلك السعي الدؤوب لبلورة تفاهمات واتفاقات بين القوى السورية والحكومة ينهي حالة الانقسام، والأهم في الاستراتيجية الروسية هو معالجة الوجود الإيراني الذي يثير قلق كثير من الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية، ومن ثم الانتقال إلى العمل مع واشنطن ضمن معادلة تقوم على احترام مصالح الجميع، وفي مقدمتها مصالح سوريا.
ليس من شك في أنها أجندة مثقلة بالتعقيدات وحبلى بالمفاجآت، لكنها بقدر ما تمثل تحدياً أمام طموحات القيصر الروسي المنهمك في إدارة الحرب مع خصومه الأطلسيين في أوكرانيا، فإنها تشكل فرصة استراتيجية لموسكو في ظل المناخات التي أشاعتها أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول في الإقليم عموما، وما أفرزته وتفرزه على الصعيدين الميداني والسياسي على نطاق أوسع، فالبوابة السورية المتاحة حاليا من شأنها تعزيز خياراته مع الجميع.