بقلم: أحمد نظيف- النهار العربي
الشرق اليوم– قبل حضورها اجتماع المجلس الأوروبي الأربعاء المقبل في بروكسل، ستحط طائرة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في تونس، في محاولة أخيرة لإقناع الرئيس التونسي قيس سعيد بجدوى الاتفاق الذي وقعه العام الماضي مع الاتحاد الأوروبي، حول الهجرة والتعاون الاقتصادي، والذي لم يتحول إلى سياسات تنفيذية بسبب الأزمة الدبلوماسية بين الطرفين.
تدرك ميلوني أنها الجانب الأضعف في الأزمة، لأن بلادها على بعد أميال من السواحل التونسية التي ينطلق منها آلاف المهاجرين سنوياً. ولكنها تدرك في الوقت نفسه أنها الأقرب سياسياً إلى الرئيس التونسي، ويمكن أن تعقد معهم اتفاقاً ولو كان ثنائياً. وتأتي الزيارة بعد بضعة أيام من اعتماد البرلمان الأوروبي “ميثاق الهجرة واللجوء” الجديد الذي يشدد الضوابط على الوافدين إلى الاتحاد. والأهم من ذلك أنه لا يضع حواجز أمام الاستعانة بدول الجوار الأوروبي لضبط تدفقات الهجرة.
في العام الماضي، وبعد شهور من التفاوض بين إيطاليا وتونس، وقعت تونس مع الاتحاد الأوروبي مذكرة تفاهم تتضمن بنوداً تتعلق بمكافحة الهجرة غير النظامية، بالإضافة إلى الدعم المالي من الاتحاد الأوروبي لتحسين إدارة تونس حدودها.
وبموجب المذكرة، سيقدم الاتحاد الأوروبي 105 ملايين يورو للتدريب والدعم الفني لإدارة الحدود التونسية، ومكافحة عمليات التهريب، وتعزيز مراقبة الحدود، ضمن نهج يختلف نوعاً ما عن اتفاقية 2016 بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، والتي تهدف بالفعل إلى التحكم بالوافدين إلى أوروبا. إلا أن هذه المذكرة لم تحقق هدفها الأوروبي الأساسي وهو منع وصول المهاجرين إلى السواحل الإيطالية، إذ وصل خلال عام 2023 أكثر من 157 ألف مهاجر عبر البحر إلى السواحل الإيطالية، أغلبهم كانت نقطة انطلاقهم السواحل التونسية.
كان السبب الرئيسي لفشل الاتفاق الأزمة السياسية التي خلفتها مواقف قوى اليسار داخل البرلمان الأوروبي حول النزوع الاستبدادي الصاعد في البلاد، والتي بلغت ذروتها عندما منعت السلطات التونسية وفداً من البرلمان الأوروبي من دخول البلاد، جاء في مهمة “لفهم الوضع السياسي”. وكان من المقرر أن يلتقي أعضاء المجتمع المدني والنقابيون وممثلو المعارضة التونسية، وأعقب ذلك غرق جزيرة لامبيدوزا الإيطالية بقوارب الهجرة التي تُركت – ربما عمداً – لتمرّ نحو السواحل الإيطالية من تونس، رغم وجود اتفاق بين الطرفين لضبط الحدود، الأمر الذي دفع رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين إلى وضع خطة من عشر نقاط لإنقاذ الموقف، أهمها، أولاً دعم منع المغادرة من خلال إقامة شراكات تنفيذية لمكافحة التهريب مع دول المنشأ والعبور، ومن بينها تونس. وفي اليوم نفسه أعلنت رئيسة المفوضية صرف القسط الأول من المساعدات المالية التي رصدها الجانب الأوروبي لتونس ضمن الاتفاق. ورغم قيام السلطات التونسية بمنع آلاف المهاجرين من المرور إلى إيطاليا، إلا أنها احتفظت دائماً بامتياز ترك مئات الآخرين يمرون، وذلك في إطار مناورة الجانب الأوروبي لتحقيق مكاسب مادية وسياسية أكبر، وخاصة لدعم استقرار النظام السياسي.
فمنذ بداية الأزمة، وقبلها مسارا التفاوض الطويل، كان الرئيس التونسي واعياً بأن قضية الهجرة أصبحت تعتبر عنصراً أساسياً في المشهد السياسي الأوروبي، كما أنها تؤثر تأثيراً متزايداً على مجال العلاقات الخارجية، لذلك حاول الاستفادة القصوى من سياسة الاتحاد الأوروبي في الاستعانة بمصادر خارجية لإدارة تدفقات الهجرة، والتي هي في الحقيقة تجلٍ للتكوين المعقد لعلاقات القوة داخل الفضاء المتوسطي المنقسم بين شمال وجنوب، وما يترتب على ذلك من علاقات التبعية في هذا الفضاء. وقد ظهرت هذه السياسة الأوروبية بوضوح في اتفاق الهجرة مع تركيا عام 2016، عندما كلفت أو دعمت بروكسل أنقرة من خلال المال والدعم اللوجستي كي تمنع مرور اللاجئين من سوريا والعراق، ثم تطورت لتشمل اتفاقات شبيهة مع المغرب ومصر وموريتانيا وألبانيا وغيرها من دول الحوض المتوسطي الشرقية والجنوبية.
تحقق سياسة تفويض إدارة الهجرة إلى بلدان على أطراف الاتحاد الأوروبي أهدافاً أمنية وسياسية للطرفيين، تحاول رئيسة الوزراء الإيطالية كسبها مثل: تخفيف ضغط الهجرة على الدول الأعضاء على حدود الاتحاد الأوروبي، وبالتالي تسهيل إعادة توطين المهاجرين خارج الاتحاد؛ والحد من حاجة المهاجرين للقيام برحلات برية وبحرية قد تكون مميتة؛ وتعزيز التعاون مع الدول المجاورة لأوروبا في مجال إدارة الهجرة، وبالتالي الهيمنة السياسية على هذه الدول من خلال مقايضة المساعدات والقروض والدعم السياسي. ومع ذلك، فإن التخفف من حمل مواجهة تدفقات الهجرة، عن طريق الاستعانة بدول ثالثة لتعزيز الضوابط على حدود الاتحاد الأوروبي ينطوي على مخاطر جسيمة على حقوق الإنسان؛ فهو يزيد من خطر تقطع السبل بالمهاجرين في بلدان العبور من خلال إعادة قبولهم، فضلاً عن زيادة استخدام التدابير العقابية والتقييدية مثل الإعادة القسرية والاحتجاز التعسفي وسوء المعاملة. كما أنها تشكل وسيلة للعديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي للنأي بنفسها عن مساعدة اللاجئين وإدماجهم. وفي الواقع، قد يكون إبقاء المهاجرين على مسافة أكبر وسيلة لتجنب حالات الإعادة القسرية في أوروبا، والخروج من حرج الوقوع تحت طائلة القانون الدولي الإنساني والقانون الأوروبي.