الرئيسية / دراسات وتقارير / هل أنصفت الصورة الحرب الأهلية في لبنان؟

هل أنصفت الصورة الحرب الأهلية في لبنان؟

بقلم: جوزيان رحمة – اندبندنت
الشرق اليوم– نحن جيل ما بعد الحرب الأهلية في لبنان، أو أقله من أتى على هذه الدنيا في سنوات الحرب الأخيرة، لا يتذكر أية مشاهد حصلت في تلك الفترة السوداوية، فلا يعلم مثلاً كيف يكون صوت القذائف عندما تنفجر أو حتى عندما تحدث انفجارات كبرى، ولا عمليات القنص والاستهدافات المباشرة، أو ربما عمليات القتل على الهوية وفرار أبناء بلدات بأكملها من الموت… كلها مشاهد عاشها مئات آلاف اللبنانيين حينها، وتعرف إليها من لم يعشها عبر صور، لا تمحى من ذاكرة أي لبناني.

إن بحثنا على الإنترنت عن أحداث الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990)، تتسابق إلينا لقطات وصور من كل حدب وصوب، وكأنها تتنافس في ما بينها من الأقسى، أو ربما الأكثر دموية، أو حتى الأكثر تأثيراً في من يراها، كيف لا والصورة تعد سلاحاً بحد ذاته في زمن الحروب، لا يقل أهمية عن السلاح الناري في تأثيره في مجموعات بأكملها، إن لم نقل المجتمع كله.

بداية التصوير الحربي

يقول الصحافي والأكاديمي د. ياسر غازي إن من سبقونا في ميدان الكلمة وعصر الصورة اختصروا تجربتهم بمعادلة إن “الحرب مبدؤها الكلام” وإن “الصورة بألف كلمة”، فيما لعبت الصورة دوراً متقدماً في إشعال حروب، وإذكاء نار حروب أخرى، وهي قد تكون في الوقت عينه سبباً في إخماد نار الحرب أو دليلاً لمحاسبة من تسبب بجرائمها.

ينوه غازي إلى أن حرب القرم عام 1853 والتي اندلعت في شمال البحر الأسود، شكلت نقطة تحول في نقل صور الحروب من أرض المعركة إلى العالم. في خضم هذه الحرب ولد نوع جديد من التصوير بات يُعرف بصحافة تصوير الحروب. ويعد المصور البريطاني روجر فنتون أول مصور حرب في العالم، واشتهر بصورة “وادي ظل الموت”.

وعن الحرب الأهلية في لبنان، يتحدث غازي عن نقل الإعلام اللبناني “صورة الحرب” في إطار “حرب الصورة” واستحضار خطاب الكراهية، الأمر الذي أسهم مع عوامل أخرى في إطالة أمد الحرب، فيما في المقابل لا يمكن إغفال الدور البناء لبعض العدسات المستقلة التي وثّقت مشاهد الحرب بحياد وأمانة، وأسهمت في العبور إلى زمن التسوية ووفّرت ما يمكن تسميتها بـ “صورة العبرة” من الحرب.

هل نقلت الصورة حقيقة الحرب؟

سألنا الأكاديمي المتخصص في تحليل تأثير الصورة في المجتمع “هل أنصفت الصورة الحرب الأهلية، بمعنى هل نقلتها بكامل حقيقتها”؟ فقال “إذا سلّمنا بأن هناك مصورين مستقلين أو حياديين، وصحافيين من خارج تصنيفات محاور القتال، تمكنوا من توثيق بعض وقائع تلك الحرب، فقد يكون هؤلاء قد أنصفوا تلك الحرب بمقدار حيادهم، لكن كم من أسرار دفنت مع ضحايا تلك الحرب وبين أنقاضها، كانت لتغير مجرى الأحداث فيما لو جرى. ناهيك عن أن تاريخ لبنان برمته يتحول إلى وجهة نظر تتوافق مع مصالح كل فريق، فما بالكم بتأريخ الحرب الأهلية؟”.

يشدد غازي على أهمية الاعتراف بأن الصورة استخدمت وعلى نطاق واسع للتجييش والتحريض، فكان وقع ذلك أخطر من البندقية والمدفع، بحيث كانت “شظاياها” تطاول مختلف أوساط المجتمع ولا تقتصر على جبهات القتال المباشرة، ويضيف “ثمة أحزاب ومنظمات شكلت الصورة جزءاً من خطابها السياسي المرافق واللاحق للحرب”.

يتوقف غازي عند الدور الذي يمكن أن تلعبه صور الحرب في الوعي السياسي المجتمعي في لبنان، ويتذكر مقولة الصحافي الفرنسي باتريك شوفيل “ينبغي تصوير كل شيء من أجل الذاكرة الجماعية”.

ويتابع “عام 1975 لم يدرِ أحدهم أن الصورة التي التقطت لـ “بوسطة عين الرمانة” ستتحول مع صور أخرى في الذاكرة الجماعية، إلى رمز أو شعار يرفعه دعاة السلام كلما حل نهار 13 أبريل (نيسان) من كل عام، للدلالة على هول الحرب ورجمها بعبارة “تنذكر وما تنعاد”.

ويضيف” لكن السؤال المُلح، هل يكفي ذلك لتكوين وعي سياسي محصن ضد استحضار الحرب ومفرداتها وصورها أو حتى أدواتها، أمام أي تحدٍ تفرضه تعقيدات الصيغة اللبنانية أو اضطراب الإقليم، الجواب لا… بدليل اهتزاز “صورة” السلم الأهلي في الأيام الماضية، وعشية ذكرى الحرب المشؤومة.

ويختم بالتأكيد على أن السبب الرئيسي في ذلك هو أن صورة العنف تطغى على ما عداها في الذاكرة الجماعية.

مصورون دفعوا حياتهم ثمناً

لم يسلم المصورون في زمن الحرب الأهلية اللبنانية من نيران المعارك، التي قتلت عدداً ليس قليلاً منهم، مثل عبد الرزاق السيد، خليل الدهيني وعبد الرحيم اللز، الذين خسروا حياتهم وهم يحملون الكاميرا بيدهم وعلى الخطوط الأمامية للمعارك، التي يعرفها اللبنانيون جيداً باسم “خطوط التماس”.

يقول الصحافي والمصور نبيل إسماعيل، وهو مؤسس نقابة المصورين الصحافيين في لبنان، الذي رافقته كاميرته في سنوات الحرب الأهلية إن “كاميرته كانت شاهدة وضحية أيضاً من ضحايا حرب لبنان”. ويضيف “غطّيت الحرب يوماً بيوم، في كل المناطق التي وصلتها الاشتباكات. تم استدراجنا لنصور حقد اللبنانيين على بعضهم، على رغم أنهم يدعون أنها حرب الآخرين على أرضهم، لكنها استناداً لما شاهدته كانت واحدة من: سذاجة اللبنانيين وحماستهم غير المدروسة، أو حقدهم الأعمى على بعضهم لقلة فهمهم لأهمية بلد حضاري متقدم وجميل مثل لبنان، أو أنهم بالفعل ضحايا لتدخل آخرين بمصيرهم وفي هذه الحالة هم أولاد سذج لا قرار لديهم. مهما كان السبب الحقيقي هم في النهاية قتلة وضحايا معاً لتعصب أعمى، أو ضحايا لعدم فهم التطوّرات في المنطقة في ذلك الوقت، وعجزهم عن حماية بلدهم.

تأثير الحرب يرافق المصورين

يتحدث إسماعيل عن تأثير كبير تركته الصورة في المجتمع ولديه بشكل شخصي، ويقول إن “الحرب كانت مدمرة بشراً وحجراً، دمرت منازل وأرزاقاً، وقتلت مواطنين لم يختاروا يوماً أن يكون قدرهم الموت، لقد تمت ممارسة جميع أنواع القتل وبدم بارد نتيجة الحقد الذي قادهم إلى القتل المجاني والتدمير المجاني. هذه النتيجة عشتُها، وعاشها معظم المواطنين خارج خطوط القتال ومناطق الاشتباكات. تأثيرها ليس سلبياً بل مدمّر محبط مـؤلم يرافق بعضنا إلى يومنا هذا”.

وعن أقوى موقف عاشه كمصور خلال الحرب الأهلية في لبنان، يقول إسماعيل إن كل المشاهد مؤلمة ومخيفة، ويتابع “يوميات هذا القتل المجاني المدمر أهدتني ومجاناً من دون رغبتي الحزن والأسى والخوف وعرفتني أن الحقد يدمر والسلام يعمر، وأن الحوار أفضل من القتال وأن الحب هو لغة الله التي أهدانا إياها بدل لغة الدم.

“نعم واجهت العديد من الأخطار اعتُقلت مرات عدة ومن عدة جهات”، يؤكد ويكشف أنه أصيب مرات عدة وتعرض للضرب والشتائم والتهديد. و”كنت كبقية المواطنين ضحية القتل والحقد والحوار بالرصاص”.

ويتابع أن الصورة كانت تخيف الجماعات المتقاتلة لأنها الأدلة القاطعة على وحشية القتال الأهلي. وبعضهم كان يحبها، والبعض كان يرتاح لطائفة المصور وليس للصورة كوثيقة إدانة، أو أدلة شاهدة.

عن عودة الحرب يقول نبيل إسماعيل “للأسف ما زالت تعيش في رؤوس البعض، لم يستطع اللبنانيون بعد عام 1990، أن يجدوا طريقة عيش تلغي نهائياً من قاموسهم لغة الحقد والقتال، وإعادة بلدهم كحد أدنى إلى ما كانت عليه. الحرب فرزت الناس كل إلى منطقة، ربعه أو قبيلته”، وعندما أُعلن عن انتهاء الحرب لم يعودوا إلى فكرة الاختلاط والعيش المجاور والجيرة، بل استوطنوا المناطق ذات اللون الواحد. وهذا للأسف ربى الجيل الجديد على الانعزال والأحادية، لذلك آسف أن أقول إننا لم ننجح في إغلاق ملف الحرب من رؤوسنا، بل على ما يبدو نشتاقه كل عقد أو عقدين.

يختم بالتأكيد على أن زمن اليوم هو زمن الصورة وسيطرتها على العالم، الصورة الدكتاتور المحبّب لدى العالم الدكتاتور الذي لا يعارضه أحد… إنها الأرث البصري للبشرية.

الكاميرا على “خطوط التماس”

المصور عباس سلمان، النقيب السابق لنقابة المصورين الصحافيين في لبنان، يقول إنه بدأ بتغطية الحرب منذ عام 1976 ضمن عمله في جريدة “السفير”، “كل يوم كنا نضع كاميرتنا على كتفنا وكنا ننزل لنغطي ما يحدث في خطوط التماس أي بين الشرقية والغربية، وكنا نصل إلى أماكن خطرة جداً، وكنا على طول امتداد خط المواجهة بين الطرفين”. ويؤكد أنهم كانوا يتعرضون للكثير من إطلاق النار، وكانوا ممنوعين من تصوير المسلحين، ناهيك عن وجود قناصين في كل مكان. ويتابع “المقاتل كان يحمي نفسه خلف البارودة التي يحملها، إنما نحن المصورين على الأرض كان دمنا على كفنا”.

وعن تهديدهم من قبل المسلحين، يكشف أنهم كمصورين هُددوا من قبل كل الأطراف المتقاتلة بشكل مباشر لأن كان هناك خوف مما قد تلتقطه عدساتهم. ويضيف “سقط قتلى من المصورين وخصوصاً في معارك الأسواق التجارية وسط بيروت، ومعبر المتحف- البربير أي النقطة الفاصلة بين بيروت الشرقية والغربية، هناك كنا نعمل ونصور وفجأة يبدأ القنص وتهرب الناس، فنصعد إلى مستشفى البربير لنصور هذا الخط كله على رغم أننا عالقون”.

وعن أصعب موقف عاشه خلال الحرب الأهلية، يتذكر سلمان حادثة لا ينساها، عندما كانوا يغطون جبهة عينطورة – عيون السيمان في محافظة جبل لبنان، وهناك كانوا برفقة مسلحين من حركة “فتح” على الخطوط الأمامية، وعند المغادرة بدأ الرصاص يمطر عليهم من كل حدب وصوب فسقط كل من كان في السيارة الأمامية مما اضطرهم إلى الخروج والزحف على الأرض لمئات الأمتار للنجاة بحياتهم من النيران التي استهدفتهم.

“عشنا الويلات في سنوات الحرب وما رأيته في تلك الفترة وعلى كل المحاور يثبت أن كل اللبنانيين دفعوا ثمن هذه الحرب، وطلعت بصحتي”، يقول سلمان الذي يتذكر صورة لافتة من الحرب التقطتها كاميرته، ليست لمقاتلين ولا لدمار أو قتلى، إنما لطفل يضع الهوية اللبنانية في فمه، ويعلق عليها “معبرة بكل تفاصيلها”.

شاهد أيضاً

هل انتهى محور الممانعة؟

الشرق اليوم– هل انتهى محور المقاومة والممانعة الإيراني؟ سؤال يصح طرحه بعد مرور أكثر من عام على …