بقلم: سوسن مهنا- اندبندنت
الشرق اليوم- في مقاربة نقدية للكاتب والصحافي الفرنسي كريستيان شينو لكتاب “حزب البعث وفشل القومية العربية” للكاتب السوري فاروق المصارع صدر في فبراير (شباط) 2023 ويتناول مسار “حزب البعث” التاريخي حتى تأسيسه الرسمي في السابع من أبريل (نيسان) 1947 في كل من سوريا والعراق، يقول شينو “يبدو العالم العربي اليوم وكأنه سجين ماضيه القديم، ويبحث بصورة مستمرة عن كل الوسائل والطرق المستقلة لكي يبني مستقبله. وتحت سيطرة الحكم العثماني ثم الأوروبي، نادراً ما كانت هذه الشعوب العربية تقرر مصيرها بنفسها، والحدود التي نعرفها اليوم رسمت من قبل فرنسا وبريطانيا، و’اتفاقية سايكس بيكو‘ ما زالت في صميم جميع نزاعات الشرق الأوسط. شاهدنا بعد الحرب العالمية الثانية ونشوء حركة تحرير المستعمرات، ولادة أيديولوجيا قومية عربية في حزب البعث، ولكتاب فاروق المصارع الفضل الكبير في وضع تلك الحركة في إطارها التاريخي”.
ويتابع الصحافي الفرنسي أن “البعث في نموذجه السوري أو العراقي (…)، أيقظ آمالاً عظيمة في اليقظة وفي المشاركة لدى العرب، ولكنه في الوقت نفسه أصبح السبب الرئيس الكبير في السقوط في الوهم، فالقوميات القطرية كانت أقوى من الإرادات الوحدوية لذلك سقطت الأحزاب البعثية بسرعة في صراعات وفي حروب في خدمة متسلطين مستبدين، حافظ الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق”، ويضيف أن “فاروق المصارع “يتساءل عن ضرورة وعن أهمية أيديولوجيا البعث اليوم، متجاوزاً جميع أخطائه وفشله، فقد كان البعث يطمح في توحيد جميع العرب مهما كانت دياناتهم، لكي يعيشوا سوية في عالم موحد ومتجدد. وتبقى العروبة حقيقة واقعية، وهوية حيوية على رغم عواصف المنطقة…”. ومع حلول ذكرى تأسيس “البعث” في السابع من أبريل، أين تلك المبادئ التي قام عليها هذا الحزب اليوم، “الوحدة والحرية والاشتراكية”؟ وماذا تبقى من شعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”؟.
التأسيس والاندماج
في لقاء مطول مع “اندبندنت عربية”، يصف عالم الاجتماع والمفكر اللبناني الدكتور خليل أحمد خليل نفسه بأنه “بعثي بالمعنى النهضوي” على رغم أنه لم ينتظم في صفوف “البعث”، بل انتسب إلى “الحزب التقدمي الاشتراكي” لأنه تأثر بـ”أفكار المعلم كمال جنبلاط ولأن الإنسان ينتسب إلى الأفكار التي تأتيه مباشرة”. ويقول إنه “منذ عام 1952، فتح أمام جيلنا في مدرسة الجعفرية في مدينة صور (جنوب لبنان) ’شباك البعث‘، وكان يهيمن على أجواء المدينة مع الشعار الجميل آنذاك ’شباك البعث المفتوح طلت منه الحرية علمنا أربعة أشكال والوحدة عربية‘”. ويتابع أنه في ذلك الوقت، كانت هناك أحزاب عدة في صور، حيث كان الصراع على أشده بين “الحزب الشيوعي اللبناني” وحركة “القوميين العرب” و”البعث العربي الاشتراكي”، موضحاً أنه “من هذه الزاوية، نشأنا على فكر النهضة لأن البعث يعني النهوض”.
ويردف خليل أن الأسباب التي قرّبت جيله من فكر “البعث” في ذلك الوقت هي نفسها سبب الابتعاد منه.
كيف نشأ الحزب وعلى يد من؟
في ظل هيمنة شعارات “البعث”، أسس المفكر القومي العربي ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار عام 1940 حركة “الإحياء العربي” التي سُميت في ما بعد حركة “البعث العربي”، وأخذت الاسم من مجموعة زكي الأرسوزي، المفكر السوري وأحد أهم مؤسسي الفكر القومي العربي الذي استلهم “البعث” أفكاره منه وتبناها، ومنها الدفاع عن العروبة. وفي 1947، اندمجت حركة “البعث العربي” مع منظمة الأرسوزي التي حملت اسم “البعث العربي” أيضاً، فتأسس “حزب البعث العربي”. وعام 1952، اندمج “حزب البعث العربي” مع “الحزب العربي الاشتراكي” الذي أسسه عام 1950 أكرم الحوراني، النائب والزعيم في مدينة حماة السورية.
شعبية “البعث” في سوريا
هل ما زال “البعث” يتمتع بشعبية في سوريا على أساس أنه “الحزب الحاكم” هناك؟.
يقول مؤلف كتاب “تركيبة الدولة البعثية السلطوية في سوريا” سهيل بلحاج في تحليل له بعنوان “بعث سوريا لم يعُد الحزب الحاكم” نشر في ديسمبر (كانون الأول) 2012، “منح تعديل دستوري أُجري في 1973 حزب البعث وضعاً استثنائياً بوصفه ’قائد الدولة والمجتمع‘ في سوريا، إلى أن طُرِح الدستور السوري الجديد في فبراير 2012. بيد أن هذا الحزب الذي يُعد الدعامة الأساسية للنظام السوري والذي بلغ عدد أعضائه الرسمي 2.5 مليون عضو في يناير (كانون الثاني) 2011، يمر في مرحلة من التفكك البطيء منذ اندلاع الانتفاضة في مارس (آذار) من ذلك العام. فالعزلة التدريجية لكوادر الحزب وأعضائه في ظل تصاعد أعمال العنف، فضلاً عن ازدياد تدخل الأجهزة الأمنية للدولة في توجيهه، أفشلا محاولاته قيادة هجوم سياسي مضاد واستعادة الدعم الشعبي للنظام على مدى العام التالي”.
“اندبندنت عربية” تحدثت إلى الأستاذ في العلاقات الدولية ومدير مدرسة الإعداد الحزبي المركزية في دمشق بسام أبو عبدالله وسألته: هل ما زال حزب “البعث” يتمتع بشعبية في سوريا؟ وهل هو مؤثر فعلاً في رسم السياسات ووضع استراتيجيات الحكومة؟.
يجيب أبو عبدالله أن “نعم، ما زال الحزب يتمتع بشعبية في سوريا لأسباب كثيرة، منها قدرته على التكيف وقراءة الواقع وتحليله بدقة وعدم تمسكه بتقديس النصوص الأيديولوجية كما فعلت أحزاب شيوعية عدة، فتجمد عقلها ورؤيتها في الماضي ونسيت تحديات الحاضر والمستقبل”، ويتابع أن “الحزب تمكن من إحداث التغييرات المطلوبة وفقاً لمتطلبات الواقع”.
ويرى أبو عبدالله أن الحرب التي اندلعت في سوريا عام 2011 جرّت البلاد “نحو تحديات وجودية مختلفة”، وبرأيه فإن “النماذج التي رآها الناس من المعارضات السورية دفعت كثيرين إلى القول إن حزب البعث هو الأفضل، وظل عدد منتسبيه في عز الحرب حوالى نصف مليون ممن ثبتوا عضويتهم”، ويضيف أنه “مع ذلك، لا يعني كل هذا أن الحزب لا يحتاج إلى تجديد وإصلاح، مما يجري العمل عليه حالياً، كي يتم تفادي حال التكلس”.
وعن تأثيره في رسم السياسات ووضع استراتيجيات الحكومة، يشير إلى أنه بالطبع “له تأثير، لكن في ظروف الحرب ظهرت تحديات هائلة نتيجة تداعياتها وحجم الدمار والحصار الاقتصادي الغربي وغيرها من العوامل، لذلك الحديث عن السياسات والاستراتيجيات صعب جداً”.
شرط عبدالناصر للوحدة
يقول المفكر أحمد خليل إنه “ما كان يشغل العرب في الخمسينيات ثورة مصر أو انقلاب جمال عبدالناصر لأنه منذ ذلك التاريخ، أي منذ عام 1952، لم يقُم العرب بثورة بكل ما للكلمة من معنى، مثل الثورة الفرنسية أو الروسية أو الصينية أو البريطانية وغيرها، إلا في الجزائر”، ويشير إلى أنه بعد محاولة اغتيال عبدالناصر عام 1954، خرجت تظاهرات مؤيدة له وتنادي بالوحدة وتهتف “بدنا الوحدة باكر باكر مع الأسمر عبدالناصر”. وبعد العدوان على مصر عام 1956، بدأ البحث في موضوع الوحدة وأعلن عنها في فبراير 1958.
هنا يقول أحمد خليل إنه في ذلك الوقت حسم قراره بعدم الانتساب إلى “البعث”، ومع هذا شارك في الوفد الذي ذهب إلى دمشق برئاسة السياسي اللبناني القومي العربي معروف سعد للاحتفال بالوحدة في القصر الرئاسي. ويتابع أن “حماسة الشباب والناس استمرت لتلك الوحدة إلى أن اتضح أن ذلك الاتحاد ليس بين شعبين بل بين جيشين قاموا بانقلابين”، قائلاً إنه “في سوريا، يطلق على الانقلابات مسمى ثورات، وبعد تأسيس (البعث) عام 1947، حصلت ثلاثة انقلابات خلال عام واحد، في 1949”. ويشار إلى أنه في ذلك العام، وفي مارس تحديداً، حصل أول انقلاب عسكري في سوريا منذ الاستقلال، وكان فاتحة سلسلة من الانقلابات العسكرية وهيمنة الجيش على الحياة السياسية. تبع ذلك انقلابان عسكريان خلال العام ذاته، في ما اعتبر فاتحة تدخل الجيش في سوريا بسياسة البلاد الداخلية، ووصفه فارس الخوري، أحد الآباء المؤسسين للجمهورية السورية، بأنه “أعظم كارثة حلت بالبلاد منذ حكم تركيا الفتاة”.
يتابع عالم الاجتماع خليل أحمد خليل أن “الجيل الذي أيّد الوحدة ودعا إليها صدم كيف أن حزب البعث الذي من المفترض أنه يحمل رسالة توحيد الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، قبِل بشرط عبدالناصر، وهو لإقامة الوحدة بين مصر وسوريا يجب حل ’البعث‘، فإلى أي ’بعث‘ سننتسب؟ وكيف نقبل بحزب وافق على حل نفسه بنفسه بشرط من عسكري اسمه جمال عبدالناصر؟، ووافقت قيادة البعث في سوريا التي كانت بقيادة ميشال عفلق على حل الحزب”.
ويشدد خليل على أنه حتى اليوم لم يستوعب ما حصل حينها، مفسراً ذلك بأن العسكريين الذين اتخذوا تلك الخطوة “كان هدفهم الأوحد هو الوصول إلى السلطة عبر الانقلابات التي يسمونها ثورات. لذا لم يتحقق شيئاً لا من شعارات عبدالناصر ولا من شعارات البعث”. ويعتبر أن خطأ البعث المركزي كان عام 1957 عندما وافق على حل نفسه بطلب من الرئيس المصري جمال عبدالناصر كشرط للوحدة بين مصر وسوريا.
تحديات داخلية في سوريا
لكن في وقتنا الحالي، كيف يروج رئيس النظام السوري بشار الأسد للانتخابات المقبلة في “حزب البعث”؟.
يقول أبو عبدالله إنه لا يمكن الاستمرار بطرق أو آليات العمل القديمة بعد الحرب، لكن الأمر يحتاج إلى الوقت، ويشير إلى أن “حزب البعث” ألغى ما كان يعرف بـ”القيادة القومية” للحزب، وحل محلها ما يسمى “المجلس القومي” الذي يجمع “حزب البعث” مع الأحزاب والتيارات القومية العربية انطلاقاً مما يسمى “وحدة الفكر ولا مركزية التنظيم”، أي كل حزب يعمل وفقاً لقوانين بلده وظروفه المحلية وتحدياته الخاصة”.
وتشكل التحركات الاحتجاجية في محافظة السويداء التي خرجت بعناوين حقوقية وسياسية مستمدة شعاراتها من شعارات الثورة السورية نفسها والتي طالبت بإسقاط النظام وتطبيق القرار الأممي رقم 2254 الذي تحدث عن عملية الانتقال السياسي وتسوية دائمة للأزمة، كثيراً من التحديات بالنسبة إلى النظام السوري، فهي من جهة سلمية، من ثم لا يمكن اتهام المشاركين فيها بأنهم “إرهابيون”، كما أن السويداء معقل الدروز، إحدى الأقليات في سوريا التي يقول النظام مراراً وتكراراً إنه “يحميها”.
وفي ما يتعلق بإغلاق مقار “حزب البعث” في محافظة السويداء من قبل المحتجين، يوضح أبو عبدالله أن “توجه الدولة والحزب هو عدم الاصطدام مع المحتجين، لذلك إغلاق مقار الحزب محاولة للاستفزاز وجر الناس إلى الصدام، وهو ما لم يحصل”.
انبعاث “البعث” مجدداً
يشير المفكر خليل إلى أنه عام 1961، جاء اليمين في سوريا بقيادة مأمون الكزبري وسيطر على مقاليد الحكم بعدما انفصلت سوريا عن مصر عبر انقلاب عسكري في الـ 28 ومن سبتمبر (أيلول) من ذلك العام، معلناً قيام الجمهورية العربية السورية، ومن ثم حصل انقلاب على الانقلاب عام 1963، مما يعرف بـ”ثورة الثامن من مارس” وهو استيلاء اللجنة العسكرية التابعة للفرع السوري لـ”حزب البعث العربي الاشتراكي” على السلطة المدنية والعسكرية في سوريا، وقام بدور بارز في نجاح هذا الانقلاب التنظيم العسكري الذي تشكل في مصر إبان عهد الوحدة والمؤلف من الضباط محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وأحمد المير وعبدالكريم الجندي، وأمسك هذا التنظيم بمقاليد الدولة كافة، حتى نشاطات الأندية الرياضية والاجتماعية.
ويقول الأكاديمي والمبعوث الهولندي السابق إلى سوريا نيقولاوس فان دام في كتابه “الصراع على السلطة في سوريا” إنه “بينما نجح حافظ الأسد في فرض سيطرته على معظم القوات المسلحة، أحكم صلاح جديد قبضته على جهاز الحزب المدني بشغل أهم مراكز الحزب المدنية بمؤيديه، وهكذا تم خلق ما يسمى ’ازدواجية السلطة‘، مؤسستا السلطة السورية الرئيستان وهما القوات المسلحة وجهاز حزب البعث المدني، وتمت السيطرة عليهما من قبل جماعات علوية مختلفة من الحزب أو الجيش”.
ويرى الكاتب والباحث العراقي صباح ناهي في مقالة له نشرت في “اندبندنت عربية” أنه “لم يلتقِ بعث العراق وأخوه اللدود بعث سوريا سوى مرة واحدة، كانت في اتفاق ’ميثاق العمل القومي المشترك‘ في أكتوبر من عام 1978. ونتيجة ذلك الميثاق جاءت كارثية بعد أقل من عام!، إذ أعدِمَ أكثر من 100 قيادي من البعث العراقي في أكبر عملية تصفية جسدية لكوادر الحزب في العراق، بما يسمى ’مجزرة الرفاق‘ الشهيرة في يوليو (تموز) عام 1979، ووقتها جرى التخلص من كل الرفاق الذين أيدوا مشروع الوحدة بين العراق وسوريا باتهامهم بالتحالف والتآمر مع الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد زيارة الرئيس العراقي أحمد حسن البكر لسوريا، واتفاقه الوشيك لإعلان دولة الوحدة بتنصيب الرئيس أحمد حسن البكر رئيساً لدولة الوحدة، والرئيس حافظ الأسد نائباً للرئيس بالتناوب كل سنة، مما يعني تعويماً حتمياً لنائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين الذي سرعان ما انقلب على المشروع برمته وقلب الطاولة على الجميع!”.
الخصومة مع حزب البعث العراقي
يشير أبو عبدالله إلى أن “هذا صراع سياسي وليس أيديولوجياً، ارتبط تاريخياً بعدم رغبة صدام حسين في الوحدة عام 1979، وذهابه نحو الحرب ضد إيران التي وقفت سوريا ضدها. لكن سوريا ميزت الموقف من صدام ومن العراق، حينما شعرت بأن العراق سيتعرض للغزو وقفت إلى جانبه بوجود صدام”. ويتابع أن “العمل على المستوى القومي ما زال مستمراً ضمن إطار اللقاء مع الأحزاب والتيارات والتجمعات القومية العربية، والاتجاهات السياسية كلها التي تجمعنا بها قواسم مشتركة. ولا يمكن أن ننكر أن هذا الصراع يجب أن ينتهي وأن نجد تقاطعات كثيرة بيننا، لكن تنظيم البعث في العراق ضَعُفَ كثيراً، ومع ذلك هناك بعثيون عراقيون في سوريا، والأساس قراءة الواقع والتخلص من عقلية الانتقام نحو وحدة العراقيين، ذلك أن قوة العراق هي قوة سوريا، والعكس صحيح تماماً”.
وبعد هذه الجردة ماذا تبقى من “حزب البعث” اليوم؟، ليشرح المفكر أحمد خليل أن على هذا الجيل الثالث أو الرابع أن يناضل، وإذا لم يقم بذلك فإن البعث لن يتجدد، ويتابع أنه “يخشى أن يضمحل البعث ويصبح ذكرى تاريخية لا أكثر ولا أقل، وهذا هو مصير الأحزاب في المشرق العربي لأنه إذا نظرنا إلى شعارات الأحزاب في سوريا أو لبنان أو اليمن أو العراق، فهي إيهامات أو دعايات لا تنطبق على واقع الحال، لذا عليهم العودة للواقعية. أما المهم بالنسبة إلى سوريا فهو أن يتمكن الأسد وحزبه من تحرير البلاد من الاحتلال الأجنبي، الاحتلال الاستعماري”، مضيفاً أن “المنطقة تفككت وعملياً المشرق العربي لم يعُد كما كان والقضية الفلسطينية لا تشي بأفق واضح”.