بقلم: عقيل عباس – النهار العربي
الشرق اليوم- يُتداول في الأوساط السياسية والإعلامية العراقية الحديث عن رغبة بعض القوى السياسية في الإطار التنسيقي، الكتلة البرلمانية الحاكمة، بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة في ظل قانون انتخابي سابق. الغرض من هذه الانتخابات كما رَشَح من بعض التسريبات هو قلق هذه القوى الإطارية من الصعود السياسي لرئيس الوزراء الحالي، السيد محمد شياع السوداني، ونيته المفترضة لتشكيل تحالف سياسي جديد معظمه من جماعات وشخصيات سياسية خارج الإطار التنسيقي لخوض الانتخابات المقبلة المقرر إجراؤها في العام المقبل، 2025.
ثمة مخاوف إطارية من أن نجاح السوداني في هذا المسعى سيقود إلى حصده عدداً كبيراً من المقاعد البرلمانية ما يلغي حاجته للاستعانة بالإطار للتجديد له في منصبه الحالي أو يقلل هذه الحاجة إلى حد كبير، أي تشكيل قوته السياسية الخاصة به التي يستطيع الاستناد إليها للحصول على شروط أفضل لرئاسة وزراء مقبلة. من أجل قطع الطريق على هذه الطموحات يأتي الاقتراح لإجراء هذه الانتخابات المبكرة بقانون الانتخاب على أساس الدوائر المتعددة الذي أجريت بموجبه الانتخابات البرلمانية العامة في 2021. إجراء الانتخابات باستخدام هذا القانون وليس القانون الحالي ذا الدائرة الواحدة يضعف فرص السوداني في الحصول على مقاعد كثيرة، فضلاً عن أن الذهاب لها مبكراً يحرم السوداني من ميزة الوقت الذي يحتاجه الرجل كي يتضح للجمهور ما يُعتقد أنه حقّقه في فترته الرئاسية لـ”حكومة الخدمات” التي يقودها، خصوصاً في مجال الطرق والجسور والبنية التحتية.
ظهرَ هذا القلق من طموح السوداني الانتخابي على نحو أوضح عندما دعا أهم زعماء الإطار، وربما الطرف الأقوى فيه، السيد نوري المالكي، الى استقالة أي مسؤول حكومي من منصبه قبل ستة أشهر من إجراء الانتخابات في حال نية هذا المسؤول خوض الانتخابات، وذلك منعاً لاستغلال المسؤولين الحكوميين لمناصبهم التنفيذية والموارد التي تتيحها هذه المناصب في التأثير والدعاية الانتخابيتين، ما يمنحهم ميزة مهمة على منافسيهم الانتخابيين. يكشف كل هذا المشهد الخصيصة الأساسية التي أصبحت جزءاً تعريفياً من البنية السياسية في عراق ما بعد 2003 وطريقة إدارة الخلاف فيه، وأحد الأعراف الحاكمة، لكن غير المعلنة، فيه.
تتمثل هذه الخصيصة بالنظر إلى مصالح الأحزاب السياسية المتنفذة، أي المتشاركة في السلطة، بوصفها مصالح عامة، أي أنها تتعلق بمصالح المجتمع ككل، وليس على أساس حقيقتها بوصفها مصالح فئوية تتعلق بهذه المجموعة الحزبية أو تلك. لوحدها، تسببت هذه الخصيصة، عبر تحويلها إلى واقع سياسي مستدام، بفشل صناعة ديموقراطية رصينة في العراق واستقرار حقيقي وتبني سياسات عقلانية، تفضي، بمجموعها، إلى دولة فاعلة وبلد ناجح ومستقر على نحو حقيقي بدلاً من الاستقرار المزيف الحالي الذي يتباهى به الإطار التنسيقي ويقدمه على أنه منجز.
في أي ديموقراطية حقيقية تدير بلداً ناجحاً، تعتبر المصالح الفئوية للأحزاب والجماعات المختلفة مشروعة شرط عدم تناقضها مع المصالح العامة. ثمة سبل عديدة، غالبيتها سهلة، للتمييز بين المصالح العامة والمصالح الفئوية عند التناقض بين الأثنين، الأبرز بينها هي التجربة. في السياق العراقي مثلاً، هل منح الوزارات والمؤسسات للأحزاب على أساس نظام المحاصصة الذي يعني حصول كل حزب فائز بمقاعد برلمانية على ما يوازيها من مناصب ومؤسسات تنفيذية يعكس مصلحة فئوية أم مصلحة عامة؟ التجربة هنا كاشفة إذ تحولت هذه المؤسسات إلى إقطاعات حزبية مهمتها الأساسية توفير الدعم والموارد للحزب الماسك بها، فيما تراجع على نحو فادح وواضح أداء هذه المؤسسات في مجال تأدية وظائفها لخدمة المجتمع، خصوصاً لأن نظام المحاصصة السياسي الذي تم بموجبه توزيع هذه المؤسسات لا يسمح عملياً بالمحاسبة القانونية والشفافية الإدارية والمراقبة الجدية والمتواصلة للأداء على أساس المعايير المهنية.
النتيجة كانت تفكك الدولة وضعفها في الأداء وفشلها في العمل بكفاءة وتنسيق كجهاز واحد ضخم لكن منتظم. الخاسر الأكبر في هذا هو المجتمع، فيما المنتفع الواضح والوحيد هو الأحزاب. المصالح الفئوية هنا أهم وأعلى من المصلحة العامة. رغم بديهية هذا الاكتشاف والاتفاق الواسع عليه في عراق ما بعد 2003، تستمر المحاصصة كآلية سياسية “عُرفية” لتنظيم صراع الأحزاب على السلطة ومواردها حتى برغم إطاحة المحكمة الاتحادية بها في قرار لها بهذا الخصوص في نهاية عام 2019.
في الدعوة الأخيرة إلى انتخابات مبكرة يبرز المنطق نفسه الذي يقدم المصالح الفئوية على المصالح العامة. عندما تم تشكيل حكومة السوداني في تشرين الأول (أكتوبر) 2022 بعد مخاض صعب وصراعات قاسية وصلت إلى حد استخدام السلاح وسفك الدم وصولاً إلى إحياء مخاوف اندلاع حرب أهلية جديدة، احتوى المنهاج الوزاري في الفقرة الثالثة من المحور التشريعي “تعديل قانون الانتخابات النيابية خلال ثلاثة أشهر وإجراء انتخابات مبكرة خلال عام”. بغضّ النظر عن تعديل قانون الانتخابات الذي يعكس مصلحة فئوية وليس عامة، كان تضمين المنهاج الوزاري للانتخابات المبكرة أمراً منطقياً وتصرفاً عاقلاً يعكس انتباهاً للمصلحة العامة التي تنسجم هنا مع المصالح الفئوية. كان وقتها ثمة خوف كبير من أن التيار الصدري، الفائز بانتخابات تشرين الأول عام 2021، الذي حُرم، على نحو متعسف، من مزاولة الحق الأول بتشكيل الحكومة ما دفعه، احتجاجاً، لمغادرة الحياة السياسية الرسمية، سيعود إلى السياسة عبر الشارع من خلال الاحتجاج والتقويض الشعبي للحكومة الجديدة. لذلك وُضعت فقرةُ الانتخابات المبكرة تحسباً لمثل هذا الاحتمال، بمعنى اللجوء الى الانتخابات المبكرة من أجل حسم الصراع عبر صناديق الاقتراع وليس عبر الشارع، وخصوصاً أن الشارع هو نقطة قوة كبرى للتيار الصدري، بعكس الإطار التنسيقي ذي الوجود الشعبي غير المؤثر فيه مقارنةً بالصدريين.
لم يحدث هذا السيناريو إذ لم يحاول الصدريون تقويض الحكومة عبر الشارع، والتزموا بقرار الانسحاب الذي اتخذه زعيمهم السيد مقتدى الصدر ولم يُغيّره أو يَعْدل عنه. من هنا انتفت الحاجة للانتخابات النيابية المبكرة ولذلك سُكِتَ عن موضوع إجرائها. اكتفى الإطار التنسيقي بتغيير قانون الانتخابات لإجراء انتخابات مجالس المحافظات في كانون الأول (ديسمبر) الماضي والانتخابات النيابية العامة. كان تغيير القانون الانتخابي متناسباً أيضاً مع المصالح الفئوية لأحزاب الإطار التنسيقي لأنه يفيد الأحزاب المتنفذة، الماسكة بالسلطة، وتستطيع استخدام مواردها لتجديد فوزها الانتخابي من خلال العلاقات الزبائنية التي تنسجها عبر امتيازاتها في مناصب الدولة. يمكن لهذا القانون، الذي يقوم على التنظيم الحزبي، وليس التمثيل الفردي، أن يمثل مصلحة عامة إذا طُبق على نحو عادل وصارم ومتساو على جميع المتنافسين الانتخابيين، إلى جانب تطبيق مماثل لقانون الأحزاب والتنظيمات السياسية المُشَّرَع في عام 2015. لكن في عراق تهيمن في إدارته المصالح الفئوية للأحزاب المتنفذة على حساب المصلحة العامة لا يمكن توقع تطبيق هذين القانونين على نحو كامل وصحيح.
بروز تحدٍّ جديد لمعظم الإطار التنسيقي غير التحدي المتوقع وقت تشكيل الحكومة وإمرار المنهاج الوزاري في 2022 هو السبب لعودة الحديث الآن بخصوص اجراء انتخابات مبكرة. يمثل الصعود المحتمل للسوداني كقوة سياسية – انتخابية قائمة بنفسها تحدياً جدياً لهيمنة الكثير من قوى الإطار، وهو التحدي الذي يمكن احتواؤه عبر إجراء انتخابات مبكرة بقانون جديد. لكنْ ثمة فارق مهم بين التّحدّيَيْن: التحدي الصدري الذي لم يتحقق، والتحدي “السوداني” الذي قد يتحقق. يمكن تلخيص هذا الفارق بأن استيعاب التحدي الصدري يمثل مصلحة عامة تستحق إجراء انتخابات مبكرة لأجله منعاً لتحول الصراع إلى الشارع بكل الأضرار المتوقعة من مثل هذا التحول، لكن استيعاب التحدي “السوداني” لا يمثل مصلحة عامة تستحق إجراء انتخابات مبكرة لأجله. هو صراع سياسي متوقع يجري في إطار المؤسسات وليس الشارع، ويمثل مصالح فئوية مختلفة يستطيع أن يبت بها الجمهور عند إجراء الانتخابات في موعدها الطبيعي. الانتخابات المبكرة هي إجراء استثنائي يُلجأ إليه في حالة الانسدادات المؤسساتية والسياسية الخطيرة التي لا يمكن حلها أو حسمها إلا عبر إجراء مثل هذه الانتخابات، لأن رفاهية الزمن وانتظار الانتخابات في موعدها الطبيعي ليست متوافرة.
السوداني، بتنظيم سياسي قد يحصد مقاعد برلمانية كثيرة، ليس مشكلة عامة تهدد مصالح المجتمع. هو يهدد المصالح الفئوية للإطار فقط.