بقلم: ماجد كيالي- النهار العربي
الشرق اليوم– منذ البداية تمّ نزع السياسة، أو التخفّف منها، في الحركة الوطنية الفلسطينية، بجعلها حكراً على أفراد قياديين، كلجنة مركزية، أو كمكتب سياسي، وكحكر على الزعيم أو القائد، الذي يقرّر بالخيارات السياسية والكفاحية وتصريف الموارد والطاقات، على حساب المشاركة السياسية والإطارات الوطنية والتشريعية والقيادة الجماعية والعلاقات الديموقراطية.
ثمة عوامل رسّخت تفريغ السياسة، وهي غير الشعارات، من الكيانات الفلسطينية، أهمها أنّها نشأت واشتغلت في ظروف صعبة، في ظلّ سلطات متعددة ومختلفة، لشعب مجزّأ، وبغياب إقليم مستقل، وإنّها اعتمدت على الدعم العربي، السياسي والتسليحي والمالي، وليس على إمكانيات شعبها، ما يفسّر تحرّرها إزاءه، في خياراتها وتحولاتها السياسية والكفاحية المضطربة، إذ أنّ عشرات آلاف المتفرّغين يعيشون على الريع الذي تجبيه الفصائل، الأمر الذي شرّع عطالة، وكرّس اعتمادية مضرّة، وغلّب نزعة الموالاة، على نزعة المساءلة والنقد والمعارضة، ومكّن هيمنة المجتمع الفصائلي على المجتمع المدني، الذي بات مهمّشاً ومهشّماً.
أسهم في ذلك، أيضاً، اتسام الحركة الوطنية الفلسطينية بالعفوية والتجريبية والروح العملية، وفق مقولات: “الخطوة العملية خير من دزينة برامج”، و”النظرية الثورية تنبع من فوهة البندقية”، وقد عزّز من ذلك سيادة الروح العاطفية، وإضفاء القداسة على خيار الكفاح المسلح، من دون النظر إلى طريقة إدارته، وتبعاته، لا سيما مع شعب لا يبخل بالتضحيات.
تبعاً لكل تلك العوامل، فإنّ تفريغ السياسة أفضى، أيضاً، إلى نأي القيادة والفصائل بنفسها عن المساءلة عن الإنجازات والإخفاقات، وعن جدوى هذا الخيار وغيره في مسيرة مديدة. فـ”فتح”، مثلاً، التي قادت الكفاح الفلسطيني المعاصر، وطبعته بطابعها، تحكّمت بمجمل الخيارات، في كل المراحل، من مبادرتها بالكفاح المسلح مع هدف التحرير، إلى رفعها راية المفاوضة والتسوية، ثم بتحوّلها إلى سلطة على شعبها، تحت سلطة الاحتلال، مع كل ما نجم عن ذلك من تحولات وتداعيات؛ وهذا ينطبق على “حماس” التي باتت سلطة في غزة أيضاً، إذ لم تشكّل نموذجاً في القيادة والسلطة أفضل من الذي مثلته “فتح”.
وقد جرى كل ذلك في حين أنّ الحركة الوطنية الفلسطينية، في مسيرتها (59 سنة)، لم تقم مرّة بمراجعة نقدية لتجربتها في الأردن أو لبنان، أو في الأرض المحتلة، ولا بمراجعة خياراتها السياسية في التحرير أو الدولة الواحدة أو الدولة في الضفة والقطاع، ولا لتجربتها في الكفاح المسلح، أو الانتفاضة (الأولى والثانية) ولا لطريقة بنائها كياناتها من المنظمة إلى السلطة إلى الفصائل والمنظمات الشعبية، رغم كل التحولات والتراجعات، لاستنباط الدروس، ومعرفة أين أخطأت وأين أصابت، أين كانت وأين صارت، ولماذا، أو من المسؤول؟.
طبعاً لم يخلُ الأمر من تبلور معارضة في الحركة الوطنية الفلسطينية، بخاصة إبان صعودها في المرحلة اللبنانية، تركّزت في مناهضة القيادة الفردية، وضرورة الالتزام بالإطارات الوطنية التشريعية، ونبذ الزبائنية والمحسوبية والفساد، إلى جانب مقاومة ميل القيادة للمساومة السياسية بشكل مبكر، وفق برنامج النقاط العشر (1974)، والذي تمّ فرضه بطريقة مفاجئة وفوقية وقسرية، وكل ذلك بالتوازي مع رفض مظاهر العسكرة وفوضى السلاح، الأمر الذي تطور أكثر بعد اتفاق أوسلو (1993)، ومع تحول الحركة الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال وبعد الانقسام والتنازع بين “فتح” و”حماس”.
بيد إنّ الظروف الذاتية والموضوعية، التي تحدثنا عنها، مع قيود البيئة العربية والدولية، والهيمنة الإسرائيلية في الداخل، أسهمت في استعصاء أي تغيير فلسطيني، وإخفاق أي محاولة لتوليد بديل مناسب، مع وجود 16 فصيلاً (عدا أحزاب فلسطينيي 48)، لا أحد يعرف عن أغلبهم شيئاً، ومعظمهم لا هوية سياسية له، ولا تمثيل بين الفلسطينيين في الداخل والخارج، ولا دور كفاحياً في مواجهة إسرائيل.
ورغم ذلك، يفترض حثّ الجهود في هذا الاتجاه، لكن على أسس صحيحة وجدّية وعملية، ما يتطلّب القطع مع التجربة الماضية للحركة الوطنية الفلسطينية، بإجراء مراجعة نقدية مسؤولة لكل خياراتها السياسية والكفاحية وطرق عملها، بعيداً من الشخصنة والاتهامات والتخوينات، إذ من دون تلك القطيعة فإنّ أي طلب على البديل لن يفضي إلاّ إلى تعويم فصائل لم يعد لديها ما تضيفه، وقيام نوع من شراكة في المجال السياسي الفلسطيني، بين قيادتي “فتح” و”حماس”، كقوتي أمر واقع، وتالياً إعادة انتاج التجربة الماضية.
على ذلك، فإنّ إشهار طلب البديل بوصفه ضرورة مستقبلية، وطبيعية، يختلف عن الطلب عليه والشعب الفلسطيني تحت المدحلة، كمجرد طرح أخلاقي، وكإبراء للذمّة، فما تعذّر فعله قبل عقد، او ثلاثة، في الظروف العادية، سيتعذر الآن، لأنّ الأمر لا يتعلق بوصفة جاهزة (روشيتة) تُقدّم كل مرة وبكل ظرف، ببنود مكرّرة عن الصمود، والانتخابات، وتفعيل منظمة التحرير، وعن وحدة قوى أغلبها لم يعد موجوداً، أو فاعلاً، إذ كل واحد من تلك البنود يحتاج إلى إمكانيات وبنى وآليات وفترة زمنية، وظروف مؤاتية، وروح وطنية ملهمة أيضاً.
في السياق، قد يجدر التوضيح، أيضاً، أنّ الساحة الفلسطينية تفتقد للنقد الجوهري، وليس من كثرة النقد، كما يروّج البعض، لتبرير تبرّمه من النقد بدعوى عدم نشر “الغسيل الوسخ”، أو بدعوى أن “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، أو لتجنّب “وهن عزيمة الأمة”. والحقيقة أنّ تلك الساحة تشكو من كثرة الموالين، وهي أحوج إلى مراجعات نقدية مسؤولة وجدّية لمكامن خللها، بافتقادها لرؤية وطنية جامعة تطابق بين الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، من دون إغفال الأهداف المتعينة والممكنة، التي لا تخلّ بعنصري الحقيقة والعدالة، وفقاً لتعبير إدوارد سعيد. وتالياً افتقادها إلى استراتيجية كفاحية ممكنة ومستدامة ومجدية، وأيضا غياب طابعها المؤسسي والديموقراطي، وسيادة القيادة الفردية في كياناتها.
إنطلاقاً من ذلك، فإنّ التبرم من النقد أو استنكاره، لأي سبب، والذي تروّج له القوى الفلسطينية المهيمنة، وبعض المثقفين، عن حسن قصد أو من دونه، وضمن ذلك خلطها بين المقاومة المسلحة المشروعة والانزلاق بالمقاومة إلى حرب، أو خلطها بين نقد المقاومة لترشيدها وبين نزع الشرعية عنها، ينطوي على مغالطة، وقصور رؤية. والأهم أنّه يضرّ بفكرة السياسة، باختزالها بإرادة القائد، أو القيادة، وبخصخصتها، على طريقة الأنظمة، بجعلها احتكاراً للطبقة السياسية المسيطرة، بمعزل عن معظم الشعب، وبغض النظر عن علاقات المأسسة والتمثيل والمشاركة السياسية، علماً أنّ دور المثقف ليس التطبيل أو الامتثال، بل توخّي الحقيقة، بتقديم وجهة نظر نقدية وموضوعية مستقلة عن أي سلطة، دولتية أو حزبية أو ثقافية.
لنلاحظ أنّ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة حققت معظم إنجازاتها، وما تستطيعه، في السنوات العشر الأولى لقيامها، أي في منتصف السبعينات من القرن الماضي، وهو ما تمثل باستنهاض الشعب الفلسطيني من النكبة، ووضع قضيته على الخارطة السياسية العربية والدولية، وفرض منظمة التحرير ككيان جامع وكممثل شرعي وحيد له، عربياً ودولياً، أما في ما بعد فإنّ تلك الحركة دخلت في أزمة أو في استعصاء، وباتت تعيش على تاريخها، ثم على كونها أضحت سلطة على جزء من شعبها في الضفة وغزة، وهي حال مستمرة منذ خمسة عقود.
ولعلّ مسؤولية ذلك تقع على القوى الفلسطينية المهيمنة، وعلى الشرط العربي والدولي المقيّد للفلسطينيين، ولكنها تقع، أيضاً، على عاتق المثقفين الفلسطينيين، لشعب عالي التسييس والتعليم، إذ مشكلة هؤلاء أنّ معظمهم إما مستقيلين من دورهم، أو يسبحون في فلك القوى الفلسطينية السائدة، بشكل غير مباشر، لا سيما إذا كانت انتقاداتهم لا تقطع مع القضايا الأساسية التي انبنت عليها التجربة الفلسطينية، التي باتت مستهلكة ومتقادمة وغير مجدية ولا تضيف شيئاً.