بقلم: عادل بن حمزة – النهار العربي
الشرق اليوم- شهدت روسيا قبل أسبوع إعلان فوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بولاية رئاسية جديدة على رأس الفدرالية الروسية بنسبة أصوات قياسية، وهي كبيرة جداً، تمثل الخط التصاعدي الذي سارت عليه عمليات التجديد التي أنجزها بوتين، من 53 في المئة سنة 2000 إلى 87 في المئة سنة 2024. هذا الفوز الساحق دفع أحد صحافيي “بي بي سي” BBC البريطانية في موسكو إلى سؤال رئيسة تحرير قناة “روسيا اليوم” RT مارغريتا سيمونيان بخصوص عدم تنافسية الانتخابات الرئاسية في روسيا، فما كان منها سوى أن أجابته بأنّ ذلك ليس ضرورياً…
فوز بوتين بولاية جديدة، وبغض النظر عن تنافسية الانتخابات من عدمها، يأتي في سياق نجاحه في نقل الاقتصاد الروسي من حدود الهاوية بل وتحقيق معدلات نمو لا يتمّ تحقيقها في الدول الغربية، كما أنّه استطاع بآليات الردع النووي أن يمنع انتقال الحرب إلى الداخل الروسي، ونجح بصفة خاصة في تحييد خطر “فاغنر” وتصفية زعيمها الذي كان على بعد كيلومترات من موسكو، في سابقة كان البعض يعتبرها نهاية مؤكّدة لبوتين الذي أمضى سنوات في الدعاية لروسيا جديدة يقودها كقوة عالمية كبرى بصرامة شديدة، ويسير بها في إطار إختيار سياسي وإيديولوجي صاعد، يدعوه بعض الباحثين بـ”النظامية”.
تقوم “النظامية” بوصفها حلاً بديلاً عن الديموقراطية التي شاخت بما فيه الكفاية، ولم تعد تغري بصورتها الليبرالية الغربية الكثير من شعوب العالم، كما أنّ “النظامية” التي تعطي الأولوية للاستقرار وللتنمية الاقتصادية وللعدالة وتعيد الاعتبار للقناعات والاختيارات الدينية وتعزز الهوية والشعور الوطني والقومي وتعمل على الحدّ من حرّية التعبير، أصبحت نموذجاً يغري الكثير من الأنظمة والقادة، خصوصاً لمواجهة تصاعد التيارات الشعبوية والمتطرّفة التي تستفيد من الانتخابات الحرّة التي تُجرى غالباً في ظلّ ظروف إقتصادية وإجتماعية تتسمّ بإنتشار واسع للبطالة وعدم الإستقرار الوظيفي والقلق المستمر بخصوص المستقبل، وهو ما يجعل فئات واسعة من جموع الناخبين يائسة وفريسة سهلة لخطابات سياسية شمولية وشعبوية، سواءً كانت تصدر عن تيارات يمينية أو يسارية.
ويعتبر الرئيس بوتين، الذي وصفته صحيفة “نيويورك تايمز” عند انتخابه رئيساً لروسيا أول مرّة بأنّه “ديموقراطي الـ”كي جي بي” (نسبة لجهاز المخابرات السوفياتي السابق الذي كان بوتين واحداً من مسؤوليه)، نموذجاً لهذه “النظامية” التي ما زالت تبحث عن صهرها في قالب إيديولوجي يمكن تصديره، أو على الأقل الدفع به في مواجهة خصومها في الداخل والخارج.
لا شك في أنّ الديموقراطية تعيش اليوم حالةً واسعة من عدم اليقين، وهي حالة تهمّ على حدّ سواءً الأنظمة السياسية المصنّفة ديموقراطية والشعوب التي لم تعد تملك رهانات و”أوهاماً” كبيرة بخصوص الديموقراطية التي كان يُنظر إليها كخشبة خلاص وأصبح يُنظر إليها اليوم بكثير من الشك والتوجس والريبة بخصوص مصيرها ومآلها في المجتمعات المعاصرة التي تبدو أقرب إلى تحقق تخوفات وهواجس موت الديموقراطية… هذا التوصيف شكّل عنواناً لكتاب جان ماري جيهينو الذي بشّر فيه بنهاية الديموقراطية، مؤكّداً أننا قادمون على عصر إمبراطورى جديد لا يعرف الحدود ولا الحرّية، ويرى أنّ عام 1989 وضع حدّاً لعصر الدولة القومية، وقضى على القيم القديمة كالأسرة والعفة.
يقدّم جان ماري في الكتاب قراءة استشرافية لذلك المستقبل الإمبراطوري. عام 1989 كان هو زمن سقوط جدار برلين، حيث ارتفعت بعده أطروحة نهاية التاريخ لـ”فوكوياما”… موضوع نهاية الديموقراطية، تناولته دراسات وأبحاث كثيرة، ويمكن إعتبار أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 حافزاً دفع العديد من الباحثين إلى إعادة طرح موضوع الديموقراطية في بنائها التقليدي من زاوية المساءلة النقدية، بخاصة في ضوء الممارسات التي أقدمت عليها دول ديموقراطية عدة على شاكلة الولايات المتحدة الأميركية، لمواجهة ظاهرة الإرهاب، وذلك بإصدارها لقوانين واتخاذها لإجراءات مشدّدة اقتربت من حالة الطوارئ ونظام الأحكام العرفية وربما حالة الحرب على المستويين الداخلي والخارجي، وكل ذلك تحت عنوان “مكافحة الإرهاب”، في حملة دولية، خصوصاً بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1373 في 28 أيلول (سبتمبر) 2001، و هو ما أدّى إلى تعريض العدالة إلى نقص فادح وتجاوز خطير، لا سيما تصدّع الحق في المحاكمة العادلة.
وكان الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش قد أجاز في قرار سابق له إجراء محاكمات عسكرية سرّية، وضمن قواعد خاصة، وقراراتها غير قابلة للاستئناف، وهو ما فسّره بعض القانونيين الأميركان بأنّه تجاوز لسلطة الجهاز القضائي، وكذلك ضدّ قواعد القانون الدولي والمعايير الدولية بشأن المحاكمة العادلة، وما جرى في غوانتانامو وأبو غريب والسجون السرّية الطائرة التي تحدث عنها الإعلام طويلاً، إنما يثير الكثير من علامات الشك حول الديموقراطية “المفقودة”!.
لقد اعتبر كثيرون أنّ هذه الإجراءات تعدّ انقلاباً تقوم به السلطة التنفيذية على الدستور الأميركي، كما ذهب إلى ذلك البروفسور بويل (Boyel) الذي قال إنّها تتجاوز اتفاقيات جنيف لعام 1949، لا سيما الاتفاقية الثالثة والرابعة. وفي الفترة نفسها شرعت الإدارة الأميركية بمحاكمات اعتماداً على أدلة سرّية، وهو ما يعني إخلالاً واضحاً بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة. والإتجاه نفسه- وإن كان بدرجة أقل- عرفته بريطانيا بعد العمليات الإرهابية التي إستهدفت لندن، وهو ما يمكننا من القول إنّ عدداً من قيم الديموقراطية تمّ تجاوزه بدعوى محاربة الإرهاب، وهو ما يعني بمفهوم المخالفة، أنّ هذه القيم الديموقراطية عجزت عن مواجهة أساليب الإرهابيين التي نجحت في استثمار مجال الحرّيات، إلى أن نفد صبر الأجهزة الأمنية والإستخباراتية للدول التي عجزت موضوعياً عن التوفيق بين إعمال القوانين المنفتحة، وفي الوقت نفسه حماية المجتمع وإحباط المشاريع الإرهابية، وهذا أمر يهدّد إستقلال الدول ووحدتها.
التحدّي الثاني الذي يواجه مسألة الديموقراطية، هو التحدّي الاقتصادي… حيث صارت المؤسسات والدول رهينة للبورصات والمصارف والشركات العابرة للقارات واللوبيات الاقتصادية، وتحولت العملية السياسية والانتخابية إلى دورة بليدة لا تؤثر في صناعة السياسات العمومية، ولا تجرؤ المؤسسات المنبثقة عنها على مخالفة التوجّهات الكبرى لاقتصاد كوكبي، يعيد إلى الخلف مبادئ ومصالح الدولة الوطنية القطرية، لفائدة هويات هجينة تصنعها شركات الإتصال العالمية وشبكات التواصل الاجتماعي وعبرها مؤسسات صناعة الرأي العام، وأضحت تلك الهويات والمعلومات المرتبطة بها سلعة للتسويق، ونجحت مؤسسات الإتصال في صناعة وجوه سياسية وتقديمها لشعوبها على أنّها البديل الذي لا محيد عنه، في حين أنّها لا تشكّل سوى وجوه جديدة لخدمة مصالح المؤسسات المالية الكبرى ورعاية مصالحها، وامتداداً صريحاً لأزمات تلك الدول والشعوب.
إنّ إستمرار الشك في الإختيار الديموقراطي، واستمرار الإصرار على اختزال الديموقراطية بمجرد عملية تصويت “حرّ” في انتخابات دورية، واستمرار هيمنة الشركات الكبرى على القرارات الاستراتيجية والاختيارات التنموية للبلدان في حدودها الوطنية، فتح العالم لسطوة الخطابات الشعبوية العدمية التي تقدّم أجوبة سهلة لكثير من القضايا والأزمات العميقة، وهي خطابات سوف نعاني منها نحن في البلدان المتخلفة بصفة أشدّ، وهو ما أصبح اليوم ظاهراً في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث تطرح في وجهنا كل القضايا دفعة واحدة، فنحن مطالبون بالنجاح الاقتصادي لتحقيق السلم الاجتماعي، وفي الوقت نفسه مطالبون ببناء مؤسسات ديموقراطية عبر آلية الانتخابات، والجميع يعلم أنّ الانتخابات النزيهة والشفافة ليست بالضرورة ما سيصنع فوراً الرخاء الاقتصادي، ما دامت المسألة الاقتصادية تخضع لحسابات ورهانات تتجاوز قدراتنا كدول وشعوب.
السؤال اليوم هو كيف نطور الديموقراطية كي تتحقق كحقيقة اجتماعية، وليس مجرد نصوص قانونية تؤطر الحرّية والتنافس السلمي على السلطة كفرضيات؟ وفي الوقت نفسه نحقق النجاحات الاقتصادية التي تضمن الكرامة وتعيد الاعتبار للدولة والمؤسسات ومن خلالها للفرد، كعنصر فاعل في المجتمع. وأساساً كيف يستطيع المجتمع أن يتخلّص من الخطابات العدمية أو الحالمة التي لا تملك أي جواب عن الإشكاليات التي أدمنت توصيفها وتشخيصها وتعتقد أنّ سياسة العلاقات العامة والتركيز على الحلول التقنية، كفيلان بتعويض غياب الرؤية السياسية والمشروع المجتمعي المؤسس على أفكار كبرى، وليس مجرد جمل إنشائية عابرة…