بقلم: أحمد نظيف- النهار العربي
الشرق اليوم– قبل أيام اعتمد أعضاء البرلمان الأوروبي تشريعاً جديداً، هو الأول من نوعه في العالم، يهدف إلى تنظيم الممارسات التكنولوجية الأكثر خطورة، وهي الذكاء الاصطناعي، تنظيماً أفضل، وتشجيع الابتكار في أوروبا، على حد تعبير المفوضية الأوروبية صاحبة المقترح والفكرة والصياغة.
في نص مقترحها اختارت المفوضية تعريفاً واسعاً للذكاء الاصطناعي، بوصفه برنامجاً طُوّر باستخدام واحد أو أكثر من التقنيات والأساليب، مثل “التعلم الآلي”، والذي يمكنه، لمجموعة معينة من الأهداف التي يحددها الإنسان، توليد نتائج مثل المحتوى، وتنبؤات أو توصيات أو قرارات تؤثر على البيئات التي يتفاعل معها.
يكمن التحدي الرئيسي للاستراتيجية الأوروبية في هذا المجال في القدرة على تطوير الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن إمكاناته الاجتماعية والاقتصادية، مع السيطرة على المخاطر التي يشكلها على الحقوق الأساسية للبشر. إلى جانب الاستخدامات المرحة للذكاء الاصطناعي، والتي يختبرها عدد واسع من الناس اليوم على منصات مختلفة، تطورت في الواقع ممارسات أكثر إثارة للجدل منها: التعرف إلى القياسات الحيوية الجماعية، وتطوير مقاطع فيديو مزيفة، وتقييم المواطنين وفقاً لسلوكهم، أو حتى معالجة البيانات الشخصية على نطاق واسع من قبل الشركات الرقمية الأميركية المتعددة الجنسيات لأغراض تجارية، أو لأغراض سياسية في الأنظمة الشمولية أو لغايات أمنية غير مشروعة.
قياساً بالولايات المتحدة والصين، تبدو أوروبا متأخرةً في هذا المجال. لذلك فإن إحدى أولويات السلطات الأوروبية هي إنشاء سوق بيانات موحدة، بوصفها القاعدة الأساسية للذكاء الاصطناعي. فهي تسمح لبرنامج الكمبيوتر بتعلم تمييز الصور أو الأصوات أو السلوكيات. إلى جانب أنها تمثل سلعة مربحة، وهو ما يفسر جزئياً لماذا أصبحت بياناتنا الشخصية ونشاط مستخدمي الإنترنت سلعة في النماذج الاقتصادية للعملاقين الرقميين، الأميركي والصيني.
وقبل أربع سنوات نشرت المفوضية الأوروبية استراتيجية خاصةً بذلك، حددت فيها هدفها بوضوح وهو “إنشاء مساحة بيانات أوروبية واحدة، وسوق بيانات واحدة حقيقية”. ولذلك يجب أن يتم تداولها تداولاً أفضل بين مختلف البلدان وقطاعات النشاط في الاتحاد الأوروبي، مع احترام القواعد الأوروبية بشأن المنافسة وحماية الخصوصية. وهنا يمكن التحدي في الموازنة بين حماية الخصوصية والحريات، وتوظيف البيانات تجارياً وأمنياً.
لا يتعلق الأمر فقط بمسائل تشريعية وعلمية، ولكن أساساً بنمط جديد من اشتغال الرأسمالية الرقمية. على المستوى الدولي يشهد القطاع تنافساً، يصل إلى درجة الحرب الباردة. قدمت حكومة الولايات المتحدة استراتيجية للذكاء الاصطناعي واستثمرت حوالي 970 مليون يورو في أبحاث غير مصنفة في مجال الذكاء الاصطناعي في عام 2016. ومن خلال “خطة تطوير الذكاء الاصطناعي للجيل القادم”، تستهدف الصين الريادة العالمية بحلول عام 2030 وتقوم باستثمارات ضخمة. كما اعتمدت دول أخرى، مثل اليابان وكندا، استراتيجيات الذكاء الاصطناعي.
في أوروبا تستقبل القارة استثمارات خاصة في الذكاء الاصطناعي بلغت قيمتها الإجمالية حوالي 2.4 إلى 3.2 مليارات يورو في عام 2016، مقارنة بـ6.5 إلى 9.7 مليارات يورو في آسيا و12.1 إلى 18.6 مليار يورو في أميركا الشمالية. إلا أن أحد التحديات الرئيسية التي يواجهها الاتحاد الأوروبي حتى يتمكن من المنافسة هو ضمان استيعاب تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في اقتصاده، إذ لم يتبن سوى جزء صغير من الشركات الأوروبية التقنيات الرقمية، فيما لا يزال ثلث القوى العاملة لا يمتلك المهارات الرقمية الأساسية. لذلك أطلق الاتحاد أخيراً جولةً استثمارية بقيمة 176 مليون يورو في القدرات الرقمية والتكنولوجيا، بينها 74 مليون يورو من الدعم الإضافي لإنشاء مساحات بيانات قطاعية، وهي حجر الزاوية في استراتيجية البيانات للاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى مشاريع أخرى في مجال البيانات. كما ستحصل المشاريع المتعلقة بالبنية التحتية السحابية على 30 مليون يورو في شكل منح لتحسين دمج الحلول الطرفية المختلفة من قطاعي الاتصالات والصناعة، ما يضمن عملها معاً بفعالية، كما استثمار 67.5 مليون يورو في الذكاء الاصطناعي، من خلال دعم إنشاء نماذج لغة أوروبية لإثراء التنوع اللغوي الأوروبي في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، فضلاً عن توفير استقلالية أفضل لاستخدام البيانات الأوروبية ومشاركتها.
تنطوي سياسات الاتحاد الأوروبي في هذا المجال على نزوع سيادي، للخروج من السيطرة الأميركية والصينية، ولا سيما الإقطاعات التكنولوجية الكبرى في وادي السيليكون. لكنها في الوقت نفسه توفر الشروط لبروز إقطاع تكنولوجي أوروبي، يملك نزعات الهيمنة نفسها، إذ تقدم سوق البيانات الجديدة بيئة مواتية لذلك. فقد أصبح جمع البيانات الرقمية الضخمة واستغلالها كأصول غير ملموسة قضية استراتيجية بالنسبة إلى الشركات الرقمية. وعلى عكس التسويق أو الإعلان الذي يهدف إلى التأثير في سلوك المستهلك، فإن النموذج الرقمي الجديد – مثل موقع أمازون أو منصة نتفليكس – يهدف إلى توجيه خيار الاستهلاك باستخدام العديد من الاقتراحات. أصبحت هذه الاقتراحات ممكنة بفضل خوارزميات قوية قادرة على التحليل الدقيق لأبسط إجراءاتنا الرقمية. لم يعد التحدي هنا يتمثل في مجرد السيطرة على عدم اليقين، بل في فهم درجة القدرة على التنبؤ بالسلوك البشري: والأكثر من ذلك أن أفق الرأسمالية لم يعد يتمثل في زيادة القدرة على التنبؤ بالسلوكيات، بل في القدرة على التحكم في هذه السلوكيات والسيطرة عليها. لذلك فإن هذا النمط من الإقطاع الرقمي، الذي يحول المستهلك إلى تابع، يعزز رأسمالية المراقبة، ويطرح العديد من الأسئلة الأخلاقية والسياسية، بخاصة في ما يتعلق بحماية خصوصية المستهلك.