بقلم: فاروق يوسف- النهار العربي
الشرق اليوم– إذا ما قُيض للديموقراطيين البقاء في البيت الأبيض من خلال إعادة انتخاب جو بايدن رئيساً، فإن فرصة خروج القوات الأميركية من العراق ستكون متاحة بنسبة خمسين في المئة. لا لأن هناك قراراً أميركياً سابقاً ينص على مغادرة منطقة الشرق الأوسط، فذلك قرار عملت حاجة إسرائيل على إلغائه، بل لأن هناك ميلاً ديموقراطياً رسخه باراك أوباما إلى ترجيح كفة إيران، والعراق هو ملعبها الأكبر الذي سبق للولايات المتحدة أن تخلت عنه وسمحت لها بأن تهيمن عليه.
غير أن إسرائيل ستكون محقة في رفضها عملية الاستسلام الأميركي لإيران في العراق. فهي حين تقارن بين عدوين، “حزب الله” في لبنان والميليشيات الإيرانية في العراق، فإنها تشعر أن خطر “حزب الله” يمكن احتواؤه أو هو في طريقه إلى الاحتواء من خلال مفاوضات صعبة تشرف عليها الولايات المتحدة، غير أن الميليشيات التي لا تخضع لسلطة الحكومة العراقية لا يمكن التفاوض معها إلا من خلال إيران، وهو ما لن تقوم به إسرائيل بنفسها. ولا مجال هنا للحديث عن احتواء مزدوج. ذلك لأن الطرف الأميركي يفصل بين لبنان والعراق في سياساته.
ولكن في حالة استعادة الجمهوريين للبيت الأبيض، وهو أمر متوقع بناءً على فشل جو بايدن في معالجة الكثير من الملفات العالمية، فإن مسألة خروج القوات الأميركية من العراق ستكون مؤجلة ريثما تستطلع الولايات المتحدة ما تخطط له إيران في مجالها الحيوي الذي صارت أربع من الدول العربية جزءاً منه، وهو ما يتناقض مع المشروع الأميركي في إقامة شرق أوسط جديد. ذلك المشروع الذي طرحه الجمهوريون وهم أولى في الدفاع عنه.
جاهزية القوات المسلحة العراقية
رغم من أن اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة ببن العراق الولايات المتحدة عام 2008 تنص في أحد بنودها على حق الحكومة العراقية في الطلب من الولايات المتحدة إجلاء قواتها المتمركزة في قواعد عسكرية متفق عليها تقع خارج المدن، غير أن أياً من الحكومات العراقية المتعاقبة لم تلجأ إلى استعمال ذلك الحق بحجة أن الأسباب التي أدت إلى توقيع تلك الاتفاقية لا تزال قائمة. تمركزت تلك الأسباب على معادلة طرفاها: الأول استمرار التهديدات التي تمثلها التنظيمات الإرهابية (صار تنظيم داعش في ما بعد من أهمها) على الأمن والاستقرار في العرق وسيادته على أراضيه. أما الثاني فمرتبط بضعف القوات المسلحة العراقية، وهو ما لم تتم معالجته عبر السنوات رغم ما أنفق من أموال هائلة على التدريب وشراء المعدات والأسلحة الحديثة وتضخم المؤسسة العسكرية التي يفوق عدد منتسبيها المليون منتسب، موزعين بين الجيش والأجهزة الأمنية والاستخبارية و”الحشد الشعبي” الذي يعتبر رسمياً تابعاً للدولة من غير أن يخضع واقعياً لسلطتها.
كانت الهزيمة التي تعرض لها الجيش العراقي في الموصل عام 2014 خير دليل إلى أن المعادلة التي ارتكز عليها الاستمرار في تنفيذ الاتفاقية ما زالت قائمة. وبغض النظر عما قيل بطريقة مبالغ فيها دعائياً عن التضحيات التي قدمتها القوات العراقية المسلحة من أجل تحرير الموصل عام 2017، فإن تلك المدينة التي مُحي الجزء التاريخي منها ما كان في الإمكان تحريرها لولا الجهد الجوي الأميركي.
فشل المشروع الأميركي في العراق
عندما انسحب الأميركيون رسمياً من العراق عام 2011 بناءً على توجيهات مباشرة من الرئيس باراك أوباما، فإن ذلك الانسحاب لا يعني أنهم قد أكملوا مهمتهم، إلا إذا كانت تلك المهمة محصورة بتحطيم الدولة العراقية وإلغاء الجيش العراقي وإقصاء حزب البعث وقتل صدام حسين ومن ثم تسليم الحكم إلى أحزاب دينية يعرف الأميركيون أنها موالية لإيران، في ظل وجود ميليشيات مسلحة يديرها الحرس الثوري الإيراني. فهل علينا والحالة هذه أن نصدق أن الولايات المتحدة ضحت بجنودها وأهدرت المليارات وتحدت المجتمع الدولي في غزوها للعراق من أجل أن تسلمه إلى عدوها؟ هناك ثغرة يُمكن أن تُسد بفشل المشروع الأميركي في العراق، وهو فشل لم تصنعه المقاومة العراقية التي تم وأدها من خلال افتعال حرب أهلية بعد تفجير الضريحين المقدسين شيعياً في سامراء عام 2006، بل هو وليد الصراع داخل الإدارة الأميركية بين المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية والذي حُسم لمصلحة الثانية. ولم يكن ذلك الصراع ليحدث لو أن مشروع الاحتلال قد استند إلى رؤية واضحة لما بعده، وهو ما يؤكد أن الإدارة الأميركية التي تزعمها الرئيس جورج بوش الابن لم تستفت في ما تنوي القيام به رأي المؤسسات البحثية التي كان في إمكانها أن تزودها بمعلومات عن طبيعة الشعب العراقي وصفات الشخصية العراقية والبنية الداخلية لعلاقة الشعب بالنظام الحاكم. ليس صعباً القول إن الرئيس بوش اندفع إلى تنفيذ قراره رغبة منه في الإجهاز على صدام حسين شخصياً والظهور أمام الشعب الأميركي بصورة المنتقم.
العراق ودولته الناقصة
لم يكن موضوع القواعد الأميركية ليشغل جزءاً من اهتمامات الحكومة العراقية قبل مقتل قاسم سليماني عام 2020، وهو الحدث الذي أشعر إيران بأن شريكتها في العملية السياسية في العراق قد غدرت بها. وهو ما دفعها إلى استعمال سلاحها الناعم من خلال الإيعاز إلى مجلس النواب العراقي بإصدار قرار ينص على رحيل القوات الأميركية. ولأن ذلك القرار كان أكبر من قدرة الحكومة العراقية على تنفيذه، فقد لجأت إلى استعمال سلاحها الخشن حين أوعزت إلى ميليشياتها بالقيام بغارات على القواعد العسكرية الأميركية. لذلك يمكن القول إن مسألة غزة ليست سوى غطاء ثانوي لإشكالية أكبر، لم تستطع الولايات المتحدة الخروج منها بحلول ميسرة. أما فكرة أن تدخل القوات الأميركية في حرب ضد الميليشيات فهي مريحة لإيران ولا يمكن أن تكون للولايات المتحدة سوى مضيعة للوقت. ما تقتله القوات الأميركية من زعماء الميليشيات العراقية لا يُعد خسارة لإيران. وهو ما سيدفع الأميركيين إلى التفكير كثيراً في قيمة عملياتهم الانتقامية. ولكن هل سيسمح الأميركيون بانتصار الإيرانيين عليهم في العراق بطريقة مخاتلة؟ ذلك ما سيقرره الأميركيون بأنفسهم. أما العراق فإنه سيبقى دولة ناقصة السيادة، سواء بقيت القواعد الأميركية على حالها أم أُغلقت.