بقلم: عبدالوهاب بدرخان- النهار العربي
الشرق اليوم– لا هدنة، إذاً، قبل بداية شهر رمضان، وربما لن تكون هدنة خلاله. هذا ما أملاه “منطق الحرب”، مقدار ما فرضته حسابات السياسة الداخلية (لرئيس الوزراء الإسرائيلي شخصياً)، وحسابات المواجهة الاستراتيجية التي تخوضها إيران ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، عبر “حماس” و”الجهاد” ووكلائها الآخرين. لم تكن الخسائر البشرية وحجم الدمار في أي لحظة جزءاً من هواجس هذه الدول الثلاث/ الأطراف، لا إنسانياً ولا أخلاقياً، أما اللادُوَل/ الأطراف فليس لها خيار ولم يعد لها سوى العضّ على الجروح. حتى المجاعة التي بات عدادها يرتفع يومياً لا تشكّل حافزاً لفرملة التوحّش الإسرائيلي وهجماته على الجوعى منتظري المساعدات.
ومع دخول الحرب شهرها السادس وبلوغ الحصيلة الدموية مئة وعشرة آلاف إنسان بين قتيل ومفقود وجريح، أصبح الموت عادياً عند الغزّيين المردّدين “حسبي الله ونعم الوكيل”، تماماً كما أصبح اليأس من العرب والعالم. ولا عزاء لأولئك الملايين من شبان العالم الذين لا يزالون يخرجون للمطالبة بـ”وقف إطلاق النار الآن” والهتاف “فلسطين حرّة، حرّة”.
كان فشل مفاوضات الهدنة متوقّعاً: بنيامين نتنياهو وزمرة المتطرّفين التي تسيّره لا يريدون إنهاء الحرب، ولا مجال للمراهنة على “اعتدال” بيني غانتس أو غادي أيزنكوت، فهما عسكريان بنيا سمعتهما على قتل الفلسطينيين. لذلك فإنهم يعتبرون جميعاً أن إسرائيل خسرت الكثير وتهشّمت صورتها داخلياً وخارجياً، لكنها لا تزال تعوّل على احتمال، ولو ضئيلاً، لأن تربح “صورة النصر” بالوصول إلى قادة “حماس” في آخر زاوية من النفق الأخير، حتى لو كلّفها ذلك التسبّب بقتل مَن تبقّى من رهائن وتعريض العلاقة مع أميركا للاهتزاز. وعلى أي حال، ورغم اهتمام واشنطن بالرهائن الأميركيين في غزّة، ومن حاجة إدارة جو بايدن إلى الهدنة في حملته الانتخابية، لم يصدر عنها ما يشير إلى أي تغيير في تأييدها للحرب، بل إنها اختارت تحميل “حماس” مسؤولية انهيار مفاوضات الهدنة. ثم إن إنزال المساعدات جواً وبناء ميناء موقّت لإيصالها لا يحجبان عدم الرغبة في إلزام إسرائيل بتسهيل وصولها براً، ولا الاستمرار بتوفير الأسلحة التي يستخدمها الإسرائيليون في قتل منتظري المساعدات…
ربما كانت الاعتبارات نفسها تتحكم بحسابات إيران ومشاوراتها/ أوامرها لوكلائها، ما ينعكس في تشدّد “حماس” بشروطها للهدنة، وأهمها أن يكون وقف نهائي لإطلاق النار. فبعدما دفعت بالغزّيين إلى هذا العدد الهائل من التضحيات، معتبرةً ذلك “صموداً بطولياً” من جانبهم، ليس هناك معنىً، بالنسبة إلى الحركة، لأي توقّف موقّت ثم استئناف مواجهة قتالية تعرف مسبقاً أنه سيستمر حتى “القضاء” على القدرات العسكرية لـ”كتائب القسام” والفصائل الأخرى.
لدى “حماس” ما تخسره، وهو أن تكون أو لا تكون في “اليوم التالي”، لذا فهي حسمت خيارها بـ”النصر أو الاستشهاد”، أي أن تكسب ولو معنوياً في غزّة التي تحوّلت قطاعاً من ركام وخيام وسكان من جياع ومكلومين… وهكذا بلغت مفاوضات الهدنة انسداداً من طرفيها، وأفضت عملياً إلى النتيجة نفسها، فإسرائيل متمسّكة بالذهاب إلى “المجزرة الكبرى” وإيران لا تريد أن تنتهي الحرب بخسارتها ورقتَي “حماس” و”الجهاد”.
مهّد مجلس الحرب الإسرائيلي لفشل مساعي الهدنة بتهديد “حماس” بأن شهر رمضان لن يكون عقبة أمام تنفيذ الخطة الجاهزة لاجتياح رفح، إذا لم توافق على الاتفاق المقترح لوقف موقّت لإطلاق النار. واستعرضت مقالات وتحليلات إسرائيلية وقائع حربية قديمة وحديثة حصلت خلال شهر رمضان لإقصاء ذريعة الضرورة التي تبرّر الضغط حتى الأميركي على إسرائيل كي توقف الحرب، وأيضاً للدلالة إلى أن شهر الصوم لدى المسلمين لم يحل دون شن “حرب العاشر من رمضان” (حرب 6 أكتوبر 1973) مثلاً، أو حروب ومواجهات تبادل الطرفان إشعالها في غزّة في 2014 (الجرف الصامد) و2021 (سيف القدس)، وقبلها أو بعدها في مواجهات الأقصى (1989) ومجزرة الحرم الإبراهيمي (1994) وأيام الغضب (2004) واقتحام المستوطنين للأقصى فجراً (2023)، وغير ذلك… وكان للتذكير بهذه الأحداث هدفان: المحاججة بأن حلول رمضان خلال حرب دائرة ليس مبرّراً لوقفها، وإثبات أن المسلمين أنفسهم لم يكرّسوا هذا الشهر للتهدئة والتهادن بل حافزاً للجهاد.
وبطبيعة الحال تجاهل مستعيدو تلك الوقائع أن هناك احتلالاً، وأن استفزازات واعتداءات سبقتها وتبعتها كمحاولات حرق المسجد الأقصى وتكرار اقتحام حرمه وفرض قيود على الصلاة فيه. وعدا أن هذا الممارسات لامست طابعاً دينياً للصراع، فإن زمرة المتطرّفين في الحكومة الحالية تواصل تحدّي التحذيرات من اندلاع حرب دينية، وقد منحها الجيش حجّة إضافية بإقدامه على تدمير منهجي لمساجد غزّة وقيام جنوده بأعمال تدنيس متعمّد للعديد منها حتى بعد هدمها. قد يكون الضغط الأميركي لانتزاع “هدنة رمضان” من قبيل إظهار الاحترام لشهر الصوم، ليس أمام الفلسطينيين بل إزاء دول مسلمة ترشّحها واشنطن لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
كان يوم المرأة العالمي فلسطينياً هذه السنة، وسط شهادات قاسية لنساء يجاهدن لتضميد الجروح والبحث عن أي طعام لإبقاء أبنائهن وبناتهن على قيد الحياة. وتزامن هذا اليوم مع صدور تقرير أممي صادم تضمّن توثيقاً للحالات الأبشع في ممارسات قوات الاحتلال في السجون، وبينها اغتصاب أكثر من مئة امرأة، عدا التعذيب الهمجي الذي أدّى إلى تصفية العشرات من المعتقلين. لكنه تزامن أيضاً مع توصية الحاخام إلياهو مالي بقتل نساء غزّة وأطفالها “طبقاً للشريعة اليهودية”، وقد أظهرت القوات الإسرائيلية التزاماً دقيقاً بتطبيق القتل، كما شرّعه هذا الحاخام وسواه، لأن النساء ولّادات وهن “مصدر الحياة” أما الأطفال فهم “مقاتلو المستقبل”، والأفضل أن يُقضى عليهم الآن.
يريد الرئيس الأميركي أن يكون لإسرائيل إشراف أمني على الميناء الموقّت للمساعدات، وبذلك يجرّد مبادرته من بُعدها الإنساني البحت. وتريد إسرائيل الاحتفاظ بوجودها العسكري قي قطاع غزّة أياً تكن طبيعة “اليوم التالي”، فبعدما فرضت الحصار الشامل وصولاً إلى المجاعة، تصرّ على أن يُعطى لها “الحق” في هندسة تلك المجاعة وإدامتها لتوظيفها في تهجير الفلسطينيين من غزّة، وبعدما ارتكبت الفظائع الإجرامية ستسعى جهدها لكبح انكشاف ما خفي من حقائق بعد انتهاء الحرب كي يعود حلفاؤها إلى تأهيلها كـ”واحة ديموقراطية وحيدة في الشرق الأوسط”، على رغم اكتشافهم أن هذه “الإسرائيل” منبوذة من أجيالهم الجديدة. إذ إن بشاعة جرائمها لطّخت سمعة الديموقراطيات الغربية التي دعمتها، فأقلّ ما باتت تلك “الديموقراطيات” توصم به أنها شريكة إسرائيل في ارتكاب الإبادة الجماعية.