بقلم: عبدالله السويجي- صحيفة الخليج
الشرق اليوم– سنستخدم في هذا المقال كلمة (تغيير) بصفتها ناقلة لمشهد مختلف، وعدم بقاء الشيء على حاله، لا هو أفضل ولا هو أسوأ من سابقه، استناداً إلى معايير الحيادية التي يجب أن يتحلى بها المحلّل في أي مجال وأي ميدان، لأن مهمته وصفية موضوعية، لا يقدم زيادة ولا يؤخر أخرى للمشهد. ومن بداهة القول أن التغيير يختلف عن التطوير، الذي يعني حالة مختلفة للشيء قد تكون أجمل من سابقه. وهناك تغيير حمل تطويراً من ناحية المضمون، لكنه من جهة أخرى حمل سلبيات من ناحية الشكل، ونعني هنا أنه يمكن توظيف المنتج، الذي خضع للتغيير وفق أهواء ومصالح المُستخدِم.
لقد أشرنا مراراً وتكراراً إلى أن ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال، أحدثت تغييراً في حياتنا، بمعنى أنها أحدثت تطويراً، لكنها في الوقت ذاته، حملت معها سلبيات عديدة، ومرة أخرى، فإن العيب ليس في تلك التكنولوجيا، ولكن في المستخدمين الذي أساؤوا استخدامها، ويمكن أن نضرب مثلاً بوسائل التواصل الاجتماعي التي تم تأسيسها لتعزيز الروابط وتمتين الاتصال بين الناس، فإذا بكثيرين يستخدمونها لأغراض شريرة تختلف كثيراً عن وظيفتها التي اختُرعت من أجلها، ما تسبب في فوضى عارمة، خاصة أنها خَلقت ما يُسمّى (الفضاء) المفتوح، غير المراقب، غير المسيطر عليه.
وقد يقول بعضهم إنه مراقب ومسيطر عليها، وهو أمر حقيقي، لكنه يعتمد على القصدية، بمعنى أن الحكومات لو أرادت مراقبة شخصية أو مجموعة ما، فإنها تمتلك الوسائل والأجهزة التي تجعلها تؤدي وظيفتها بقوة، لكن وبشكل عام، فإن هذا الفضاء الافتراضي، والذي لم يعد افتراضياً، يعج بالفوضى الخانقة أحياناً، إلى درجة جعلت الكثير من الآباء يضعون ضوابط، موجودة ضمن المنصات والتطبيقات، للحد من تدفق معلومات معينة، أو محتوى محدّد. وقد لجأت بعض الدول المنتجة لهذه المنصات والتطبيقات مؤخراً، إلى وضع ضوابط أمام شريحة عمرية، تمنعها من الوصول إلى محتويات بعينها، وكذا فعلت المؤسسات التعليمية، خاصة في ما يتعلق باستخدام برامج الذكاء الاصطناعي، لأنها باتت تعلّم التلميذ الاتكالية، بل والغش، والانتحال، وهو ما يتعارض مع أهداف العملية التعليمية والتربوية.
قلنا إن تكنولوجيا المعلومات والاتصال أحدثت تغييراً وتطويراً كبيرين، والإعلام من أكبر المستفيدين، إن كان في الجاذبية التي أضفاها على برامجه، أو طبيعة عمله، وأحياناً، أثرت في عناصر البرنامج الإعلامي. ففي السابق، وحتى ثمانينات القرن الماضي، كان الناس يشاهدون نشرة الأخبار بأسلوب مباشر، أي قراءة النشرة فقط. أما اليوم، فإن كل محطة تلفزيونية لها مراسلون في عواصم عالمية عديدة، وربما في كل مكان في العالم، وهذا يعتمد على أهمية الخبر، وأهمية المكان بالنسبة للمحطة التلفزيونية. ومهمة هذا المراسل هو نقل الأحداث بموضوعية وحيادية، وهو أمر جميل، وتغيير إيجابي، لكن هذا المراسل أصبح يتجاوز مهمته، طبعاً بالتواطؤ مع القائمين على المحطة التلفزيونية، فحين لا يملأ المراسل الوقت، يتحول إلى محلّل يبدي رأيه الخاص، فحين تسأل المذيعة أو المذيع المراسل: ما رأيك؟ وهل تعتقد؟ وكيف ترى؟ فإنه يخسر موضوعيته، وبالتالي يصبح مروجاً للمنظومة الفكرية للمحطة التلفزيونية، ويروّج لسياستها.
وهناك تغيير آخر طرأ على النشرة الإخبارية، نلاحظ هذا بشكل واضح في محطات تلفزيونية معروفة، إذ لم تعد تكتفي بالمراسل، وإنما، وظّفت محللاً يقوم بالتعليق على الأخبار والأحداث، وهذا يفتح المجال لإبداء الرأي الشخصي تجاه ما يحدث، وغالباً ما ينحاز لسياسات مكان عمله، ما يخلق إرباكاً في المشهد، فإما يزداد وضوحاً أو ضبابيةً، وذلك تبعاً لذكاء المحلل. وخطورة هذا العمل أنه قد يحول الهزائم إلى انتصارات، والانتصارات إلى هزائم، فيرسم وجهاً جميلاً للموت، وآخر قبيحاً للانتصارات.
والخطورة الثانية لهذا العمل تكمن في المصداقية المستقبلية، فحين تضع الحرب أوزارها، وتتضح المشاهد، فإما أن تظهر مبالغاته (كذبه)، وإما أن يتحوّل إلى بطل أو راءٍ، لأنه تنبّأ بنصر ما. والخطورة الثالثة، أن هذا المحلل، يأخذه الانبهار بنفسه إلى التنبؤ، ويتحوّل إلى قارئ كف وضارب بالرمل. وفي الواقع، تحدث معظم هذه الحالات عند الإعلام العربي، أكثر منها في المحطات الأجنبية، وأنا أستفيد من لغتي الإنجليزية، وأتابع بعض المحطات، من دون تسمية، ونادراً ما سمعت سؤالاً هو: ما رأي؟، وماذا تعتقد؟
لقد استفاد الإعلام أيضاً من التكنولوجيا الحديثة، في عمليات البث المباشر، وهذا ما يجعل الحرب، التي نكرهها جميعاً، لعبة إلكترونية مع مرور الوقت، إذ يسرق تكرار المشهد منه نسبة كبيرة من إنسانيته، ناهيك عن الإحساس بالألم الدائم والهزيمة الدائمة، إذا كانت المشاهد المنقولة تؤذي العين والإحساس والضمير، وأعرف أناساً كثيرين أصيبوا بالكآبة جراء متابعتهم للحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين في قطاع غزة في فلسطين المحتلة، ما ينعكس على إيقاع يومهم، وعلاقتهم مع أفراد أسرهم.
الإعلام الحقيقي هو ما يلتزم بنقل الوقائع كما هي، بلا إضافات شخصية أو فكرية أو حزبية، مع مراعاة المشاهد، الذي لا حول له ولا قوة، فهو مستقبِلٌ لكل ما يُبث من محتوى، الذي يجب تصفيته من التوجيه القصدي والمتعمّد.