الشرق اليوم– يربط خبراء اقتصاد بين إمكانية تطور صناعة الرقائق الإلكترونية بالقدرة على استهلاك المياه، ويشيرون إلى تخوفهم من تأثير ندرة المياه على شركات تصنيع الرقائق وسلاسل توريد هذه التكنولوجيا ودفع أسعارها للارتفاع إذا انخفضت الإمدادات، وخصوصاً أن صناعة الرقائق تعتبر صناعة متعطشة للمياه، حيث تستهلك المصانع كميات هائلة من المياه لتبريد الآلات وضمان خلوها من الغبار أو المخلفات.
وذكر تقرير صدر أخيراً عن وكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني، أن شركات صناعة أشباه الموصلات مثل شركة “تي إس إم سي” التايوانية معرضة لخطر نقص المياه مع تقدم تقنيات إنتاج وحدات المعالجة، حيث كشفت بيانات الوكالة أن استهلاك المياه لكل وحدة تنتجها الشركة زاد بنسبة 35 بالمئة بعدما تطورت قدراتها وانتقلت لتصنيع رقائق المعالجات من طراز 15 نانومتر، وأشارت الوكالة إلى أن شركات صناعة الرقائق حول العالم تستهلك كميات من الماء تعادل استهلاك مدينة هونغ كونغ التي يبلغ عدد سكانها 7.5 مليون نسمة.
وقال محلل الائتمان في الوكالة: “إن هناك ارتباطاً مباشراً بين استهلاك المياه وتطور صناعة الرقائق، وكلما تقدمت أشباه الموصلات، زادت خطوات العملية الإنتاجية وبالتالي استهلاك المياه، لكن الشركة التايوانية في وضع مثالي للاستفادة من الذكاء الاصطناعي وإن هيمنتها تسمح بتأمين الطلب النهائي والتعويض عن انخفاض مبيعات الوحدات مع ارتفاع الأسعار، فهي تصنع حوالي 90 بالمئة من الرقائق المتقدمة في العالم”.
رقائق أشباه الموصلات
توجد رقائق أشباه الموصلات في الأجهزة الاستهلاكية اليومية وكل ما يتعلق بحياة البشر من الهواتف الذكية إلى أجهزة التلفاز وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة الطبية والمنزلية والألعاب والسيارات وحتى الصناعات العسكرية، وتُعرف أشباه الموصلات بأنها مواد صلبة بلورية تمتلك قدرة متوسطة على توصيل الكهرباء، بحيث لا توصل الكهرباء بكفاءة المواد الموصلة لكنها ليست أيضاً من المواد العازلة، وتمتاز بكفاءتها في مجال الطاقة.
الجفاف يهدد الصناعة
ومن مصر يقول الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي: “يعد تغير المناخ محركاً لمخاطر الإجهاد المائي عالمياً، حيث يتطلب تصنيع أشباه الموصلات كميات كبيرة من المياه، لأنها تعد سلعة وسيطة أساسية لمنتجات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ما يترتب عليه مخاطر سلاسل التوريد لأشباه الموصلات في المستقبل، وتستخدم المياه في مجموعة متنوعة من وظائف الأعمال، حيث ينقسم استخدامها في الشركات إلى فئتين: الأولى في الزراعة، والفئة الثانية الأوسع وهي المياه المستخدمة لتصنيع المنتج أو معالجته أو غسله أو تبريده أو نقله، ويؤدي نقص المياه إلى تعريض العمليات التجارية للخطر بشكل متزايد حيث تنخفض المياه اللازمة للتصنيع والصناعات الثقيلة والبناء وقطاع التكنولوجيا.
ويتوقع البنك الدولي أن تشهد بعض المناطق انخفاض معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6 بالمئة بحلول عام 2050 إذا لم تتحسن ممارسات إدارة المياه.
ويضيف الدكتور الشناوي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية: “تشهد تايوان على سبيل المثال تشهد موجة جفاف شديدة تهدد صناعة أشباه الموصلات لديها، والتي تتطلب كميات كبيرة من المياه، ويمكن أن تتسبب الأزمة في نقص الإنتاج العالمي من الرقائق الدقيقة، وقد تم فرض قيود على المياه على شركة (تي إس إم إس)، التايوانية بسبب الجفاف الذي يهدد بالتسبب في تكرار نقص الرقائق الدقيقة الذي حصل في عام 2021، ما يتطلب الحاجة إلى استثمارات كبيرة في إعادة تدوير وتحلية المياه، وحفر الآبار لمعالجة ندرة المياه، وقد تم التخطيط لبعض الحلول ولكن لم يتم رؤية مدى فعاليتها بعد، حيث تضرب الأزمة صناعة الرقائق في تايوان في الوقت الذي تخوض فيه حربًا مع الصين في هذا المجال”.
هندسة المناخ
ويوضح أستاذ الاقتصاد في جامعة الزقازيق الدكتور الشناوي أن الضغط الذي تواجهه تايوان على إمدادات المياه والطاقة أكبر بكثير مما كان عليه قبل عامين، وترتب على ذلك عودة الموردين التايوانيين إلى الجزيرة للاستثمار في خضم الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، لذلك بدأ المستثمرون يدركون ببطء أن شهية العالم النهمة لأشباه الموصلات قد اصطدمت بالعواقب المترتبة على تغير المناخ، حيث تشكل ندرة المياه خطراً متزايداً على شركات أشباه الموصلات، وأدت الحرارة الشديدة في جميع أنحاء العالم هذا الصيف إلى رفع درجة الحرارة في شركات أشباه الموصلات التي تحتاج إلى كميات هائلة من المياه العذبة لتلبية متطلبات التصنيع المتزايدة للرقائق.
وتحاول بعض شركات الرقائق أيضاً إعادة تدوير المياه العذبة التي تستخدمها في التصنيع، حيث قالت شركة (إنتل) إنها محايدة للمياه تقريباً إذ تعيد إلى النظام البيئي ما يقرب من كمية المياه النظيفة التي تستهلكها.، وفي عام 2021، استخدمت الشركة 16 مليار غالون من المياه العذبة والمياه المستصلحة والمياه المحلاة. ومن خلال ممارسات إدارة المياه، تمكنت من إعادة أكثر من 13 مليار غالون من المياه إلى المجتمعات المجاورة، في حين وقالت شركة (تي إس إم إس) أنها تريد تقليل استهلاك وحدة المياه بنسبة 30 بالمئة على الرغم من أن جهود إعادة التدوير الخاصة بها أقل تحديداً.
كما ثارت فكرة “هندسة المناخ” حتى يمكن تبريد الأرض من خلال عكس بعض أشعة الشمس إلى الفضاء، ولكن يقول المؤيدون لهذه الفكرة إنها الطريقة “الوحيدة” لتبريد الكوكب على المدى القصير، لكن المعارضين يخشون أن تكون هذه الطريقة مدمرة للجميع، بحسب تعبيره.
ويشير الخبير الاقتصادي الدكتور الشناوي أن ندرة المياه تهدد صانعي الرقائق وفي مقدمتهم شركة (تي إس إم إس)، ويمكن أن يؤدي ذلك الى قيامها برفع الاسعار، نظراً لهيمنتها على صناعة الرقائق المتقدمة، إذ أن شح إمدادات المياه لعمليات التصنيع، يمكن أن تؤدي إلى تعطيل سلسلة التوريد التكنولوجية العالمية. ومن المرجح أن يؤدي التطور السريع للذكاء الاصطناعي إلى زيادة الطلب على المياه بشكل أكبر فشركات أشباه الموصلات ومراكز البيانات تستهلك كميات كبيرة من المياه، ويرى أنه يمكن لشركة الرقائق التايوانية العملاقة التركيز على إنتاج رقائق أكثر تقدماً بدلاً من الرقائق ذات هامش الربح المنخفض تفادياً لندرة المياه وهو ما قد يعزز الأرباح.
عوامل تهدد استقرار صناعة الرقائق
ويمكن الإشارة إلى أن اعتماد صناعة الرقائق الكبير على المياه يؤدي إلى تهديد استقرارها على النحو التالي، طبقاً لما قاله الشناوي:
فشل السوق في تسعير المياه مما يدفع إلى سهولة الاستغلال المفرط للمياه.
تتفاقم مخاطر ندرة المياه بسبب زيادة حالات الجفاف بسبب تغير المناخ، وهذا مثال واضح للمخاطر المادية المرتبطة بالطبيعة، والتي إذا لم يتم إدارتها يمكن أن تهدد استدامة الأعمال على المدى الطويل.
يعد الإجهاد المائي مشكلة عالمية منتشرة، ووفقاً لمعهد الموارد العالمية فإن الطلب على المياه العذبة قد يتجاوز العرض بنسبة 56 بالمئة خلال العقد المقبل. وفي الوقت نفسه تزايدت الحاجة إلى المياه في التصنيع بشكل كبير، وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن الطلب على المياه في طريقه إلى الزيادة بنسبة 400 بالمئة حتى عام 2050. وتشكل صناعة الإلكترونيات الدقيقة نسبة كبيرة من استخدام المياه في الصناعات التحويلية.
صناعة الرقائق تسبب التغير المناخي
بدوره، يقول عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية هاشم عقل في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “تمثل الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات حجر الزاوية في تصنيع كل شيء تقريباً من الهواتف الذكية وأجهزة التلفزيون إلى السيارات وتوربينات الرياح، لكنها في الوقت نفسه تنتج انبعاثات كربونية هائلة تسبب التغير المناخي، ومع تحول التغير المناخي إلى أمر واقع يدفع العالم كله ثمنه الباهظ بالفعل من طقس متطرف كالارتفاعات القياسية في درجات الحرارة والسيول والفيضانات وارتفاع منسوب البحار والمحيطات، وما يسببه ذلك من كوارث مميتة حول العالم كحرائق الغابات والفيضانات المدمرة، وجدت صناعة الرقائق الإلكترونية نفسها فجأة في قفص الاتهام”.
ومع تقدم تقنيات إنتاج وحدات المعالجة فإن شركات صناعة أشباه الموصلات حالياً ومنها “تي إس إم سي” التايوانية معرضة لخطر نقص المياه، باعتبارها كثيفة الاستهلاك للمياه، حيث تستهلك المصانع كميات هائلة من الماء يومياً لأغراض تبريد الآلات، وتنقية طبقات الرقائق من الغبار، بحسب عقل الذي نوه بأن نقص المياه وعدم إيجاد حلول لإدارتها سوف يؤدي إلى اضطرابات في العملية الإنتاجية وبالتالي قد تُعطل سلسلة توريد هذه التكنولوجيا على مستوى العالم وبالتالي ارتفاع الأسعار، وهو ما يحد أيضاً من تطور هذه الصناعة.
ويضيف عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية: ” إن صناعة أشباه الموصلات تواجه معضلةً حقيقية، فتحقيق أهداف سياسات مقاومة التغير المناخي العالمي يعتمد، ولو جزئياً، على صناعة أشباه الموصلات، هذه الصناعة جزء لا يتجزأ من المركبات الكهربائية، وأنظمة الطاقة الشمسية، وتوربينات الرياح. غير أن تصنيع الرقائق نفسه يُسهم في تفاقم الأزمة المناخية. ويتطلب الأمر قدراً كبيراً من الطاقة ومن المياه، ويُمكن أن تستهلك منشأة تصنيع الرقائق ملايين الغالونات من المياه يومياً، كما أنها تُنتج نفايات خطيرة”.
ولكن أمام هذا الواقع ماذا يجب أن يفعل العالم؟
يجيب الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي على هذا التساؤل بقوله: “إذا لم يقم العالم أو الدول الأكثر إنتاجا للرقائق بتكثيف الجهود لإدارة المخاطر التي تلوح في الأفق المرتبطة بالطبيعة المادية، ووضع استراتيجية لإدارة مستقبل قادر على مقاومة ندرة المياه واتخاذ تدابير استباقية للحد من الاستخدام غير الكفء للمياه، مثل تنفيذ تكنولوجيات كفاءة استخدام المياه، وعمليات إعادة التدوير، وتوفير المصادر المستدامة، فإن النتيجة بالنسبة لصناعة الرقائق هي تباطؤ الإنتاج منها واضطرابه وتضخم أسعارها، وقد تتم مواجهة تحديات تخفيف المخاطر البيئية عن طريق استخدام تكنولوجيا جديدة في صنع الرقائق المتطورة والتي قد تمثل مصدر محتمل أكبر لانبعاثات الكربون.
وهناك عدة طرق يمكن للشركات من خلالها التخفيف بشكل استباقي من مخاطر ندرة المياه وهي:
تحديث المعدات خطوة أولى.
استخدام “المياه الرمادية” المعاد تدويرها، للاستخدامات الصناعية والري.
معالجة مزيج الطاقة الذي تستخدمه الشركات بجميع أنواعها، يمكن أن يكون له تأثير على الحفاظ على المياه، وتجديد المياه الجوفية المستخدمة لتبريد مراكز البيانات الخاصة بها لشركات مثل غوغل وأمازون ومايكروسوفت.
تقليل استهلاك المياه وتكاليفها من خلال أنظمة إعادة التدوير، حيث تكتسب أنظمة إعادة تدوير المياه شعبية لأنها تقوم بمعالجة وإعادة استخدام المياه من مصادر مختلفة ما يقلل من استهلاك المياه وتكاليفها. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تعزز الأمن المائي والقدرة على الصمود والجودة البيئية.
يمكن لصناعة أشباه الموصلات أيضاً الاستفادة من هذه الأنظمة من خلال إعادة استخدام مياه الصرف الصحي الناتجة عن عمليات مختلفة مثل الحمامات والمغاسل والغسالات.
يمكن أن تشجع اللوائح أو تتطلب ممارسات إعادة تدوير المياه وتضمن الامتثال لمعايير جودة المياه من خلال فرض تدابير مختلفة على استخدام المياه أو تصريفها.
يمكن لصناعة أشباه الموصلات أن تتعاون مع مرافق المياه والجهات التنظيمية لضمان الأمن المائي وجودة عملياتها من خلال تبادل البيانات والخبرات والموارد وأفضل الممارسات.
المصدر: سكاي نيوز