بقلم: راغب جابر – النهار العربي
الشرق اليوم- وضع نتنياهو خطة لما بعد حرب غزة هي اعلان مباشر وصريح باحتلال متجدد للقطاع وللضفة الغربية. احتلال كامل لكل فلسطين ينسف كل ما حققه الفلسطينيون بالدم والقتال والنضال السياسي منذ 75 عاما حتى اليوم، وينسف القرارات الدولية وينسف الأمم المتحدة من أساسها، بعدما نسف “التحالف الاسرائيلي” في العالم الأونروا وبرنامج الغذاء العالمي في ذروة حاجة المشردين الفلسطينيين اليهما.
عبث كل المساعي الدبلوماسية لثني آلة القتل الاسرائيلية عن إكمال الخطة الجهنمية لحكومة بنيامين نتنياهو ومتطرفيه المتعطشين اكثر فأكثر لسفك مزيد من الدم.
وعبث أيضاً كل الكلام الأميركي والغربي الرسمي المتلبس لبوساً انسانياً، تارة على شكل مطالبات بإدخال مساعدات انسانية إلى غزة وطوراً تحت عنوان ضرورة الحل السلمي وصفقة الدولتين. كل ذلك كلام في كلام يتردد منذ نكبة فلسطين ولا يجد له نصيراً حقيقياً في مراكز القرار الدولي ولدى الدول الفاعلة والقادرة على ممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل.
كشفت الحرب الوحشية على غزة ان إسرائيل لا تزال الإبنة المدللة الآمرة الناهية في قلب السياسات الدولية، وأن الرهان على ضغط أميركي تحديداً هو في غير محله، فلا بايدن ولا ترامب ولا غيرهما في منظومة الحكم الأميركية أقل اصراراً من نتنياهو على محو غزة من الوجود.
بات اكيداً أن هذه الحرب لن تضع أوزارها قبل تحقيق الهدف الاسرائيلي أياً كان الثمن الذي على تل أبيب دفعه. هذه حرب حقيقية وليست عملية خاصة، وهي حرب دولية على غزة لا يقلل من ضخامتها صراخ بعض الدول الأوروبية والأميركية الجنوبية ذو الطابع الإنساني. كل ذلك ليس إلا صراخ في واد فيما الأسلحة والغذاء وكل السلع الضرورية تتدفق على مرفأ حيفا من كل حدب وصوب، فيما يكابد أطفال غزة للحصول على وجبة كاملة يومياً أو على قارورة ماء للشرب أو على سترة تقيهم برد الشتاء وهم مشردون في الخيام أو في العراء في طقس صحراوي قارس.
اسرائيل التي تواصل انزياحها عمودياً وأفقياً نحو التطرف والتشدد ليست في وارد السلام القائم على اعطاء الفلسطينيين بعضاً من حقهم، لا تزال محكومة بعقدة التفوق العنصري والخوف من المحيط، وخصوصاً من الفلسطينيين لأنها تعرف في قرارة نفسها أن قيامها بالأساس كان على حساب شعب بأكمله، وعلمتها التجربة أن هذا الشعب لن ييأس من إمكان استرجاع حقه. يرى قادة اسرائيل أن لا خيار لهم غير الحرب، هم دولة حرب منذ إقامتها، لم يشذ أحد منهم عن ذلك، ودعاة السلام الإسرائيليون هم في الحقيقة أقلية متناقصة لا متزايدة ولا يعول عليها كثيراً. هذه الدولة التي قامت بالقوة والقهر والتواطؤ الدولي لن تدخل في سلام حقيقي الا اذا هُزمت والعالم الغربي لن يدعها تُهزم، أقله حتى الآن، فهو يريدها كما تريده، وهي جزء منه. هذا تثبته حرب غزة كل يوم. كل ما عدا ذلك أوهام.
تتطلب الحقيقة الجرأة في القول، والحقيقة أن حرب غزة في شهرها الخامس أنهكت “حماس” وأنهكت الفلسطينيين وأنهكت حلفاء “حماس” وغزة القريبين والبعيدين، وأربكت العرب والإقليم بأسره. نعم أنهكت إسرائيل أيضاً وأصابتها اصابات مباشرة مؤلمة في البشر والحجر وفي العسكر والهيبة والاقتصاد، لكن خسائرها ستعوضها أميركا ومؤسساتها والدول التي تدفع الاتاوات كألمانيا وغيرها. الفارق أن اسرائيل مبنية أساساً كقاعدة عسكرية، هذه كينونتها وهذا ديدنها. إنها دولة خلقت للحرب ولا تعيش من دونها. تتراخى وينفرط عقد مجتمعها إذا جنحت الى السلام.
لقد فوتت إسرائيل كل فرص السلام وفرضت على الفلسطينيين تراجعات متكررة منذ قرار التقسيم الشهير عام 1947 الى نكبة 48 الى حرب الـ67 الى حروب لبنان الى اتفاقية أوسلو التي فرغت منظمة التحرير الفلسطينية من مضمونها وجعلتها سلطة بلا سلطة فعلية على بعض الضفة الغربية وقطاع غزة، قبل ان تنتزعه منها “حماس” وتحوله جبهة مشتعلة.
وفيما يقف العالم متفرجاً على ذبح الفلسطينيين كما فعل عام 48 ولا يرد على اعتراضات من هنا وهناك وعلى نداءات استغاثة تطلقها نسوة وأطفال جائعون في غزة ورجال مقهورون، تصعّد اسرائيل من تهديداتها للفلسطينيين ولغزة وللبنان أيضاً. الحركة الدولية وتصريحات قادة الدول والمنظمات الاغاثية تذهب أدراج الرياح.