الشرق اليوم- نشر معهد ستراتيجيكس تحليل سياسات يناقش احتمالات الانسحاب الأمريكي من العراق، وموقف الحكومة العراقية من هذا الانسحاب، ويتطرق إلى طبيعة العلاقات المستقبلية بين واشنطن وبغداد على خلفية الهجمات المتبادلة بين الفصائل المسلحة والقوات الأمريكية.
تالياً نص التحليل كما ورد في موقع ستراتيجيكس:
بدأت محادثات رسمية بين العراق والولايات المتحدة قد تؤدي إلى وضع خارطة طريق وجدول زمني لإنهاء مهمة التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، وعقدت اللجنة العسكرية العليا الأمريكية والعراقية -المُشكلة في 8 ديسمبر 2023- أولى جلساتها في 27 يناير 2024، واستأنفت في 11 فبراير، وتأتي هذه المحادثات بعد التصعيد بين الفصائل المسلحة والقوات الأمريكية، حيث نفذت الأولى ما يزيد عن 156 هجوماً على القوات الأمريكية في العراق وسوريا منذ 7 أكتوبر 2023، فيما ردت الأخيرة بضربات انتقامية استهدفت قيادات ومواقع تمركز وانتشار تلك الفصائل، وأدت هذه السلسلة من الضربات المتبادلة إلى تصاعد المطالب القديمة بإنهاء مهمة التحالف الدولي، وانسحاب القوات الأمريكية، لا سيما مطالبة البرلمان العراقي للحكومة بتنفيذ قرار مجلس النواب رقم (18) لسنة 2020، المتعلق بإنهاء مهام القوات الأجنبية في البلاد.
انعكاس الحرب في غزة على علاقات الدولتين
جددت الحرب في قطاع غزة، المطالب الرسمية والشعبية العراقية لانسحاب القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي من البلاد، فبعد عام كامل من هدوء الساحة العراقية منذ تولت حكومة محمد السوداني مهامها في 27 أكتوبر 2022، استأنفت الفصائل العراقية هجماتها ضد القوات الأمريكية في سوريا والعراق ضمن استجابة أطراف ما تعرف بـ”وحدة الساحات” التابعة لإيران للحرب في غزة. وظهر في الساحة العراقية تشكيل عسكري جديد عُرف باسم “المقاومة الإسلامية في العراق”، والذي ضم مجموعة من الفصائل المسلحة المصنفة أمريكياً على قوائم “الإرهاب”، من بينها كتائب حزب الله، وحركة النجباء وعصائب أهل الحق، وقد تبنت “المقاومة الإسلامية” أغلب الهجمات ضد القوات الأمريكية في سوريا والعراق، لا سيما الهجوم بطائرة مسيرة ضد قاعدة “البرج 22” والتي قتلت 3 جنود أمريكيين في 28 يناير 2024.
وفي ضوء ذلك التصعيد، برزت تناقضات أساسية بين العراق والولايات المتحدة، إذ اتخذت واشنطن إجراءات رادعة لمنع خصومها من تكثيف هجماتهم أو تنفيذ ضربات نوعية ضد القوات والمصالح الأمريكية، وذلك بالرد على استهدافها بضربات انتقامية. وقد قدمت ذلك بوصفه “دفاع عن النفس”، إلا أنها بذلك كانت تُعقد قدرة الحكومة العراقية على الموازنة في علاقاتها بين واشنطن من جهة والفصائل المسلحة من جهة أخرى، خاصة أن هذه الدورة من الضربة والضربة الانتقامية كانت تتصاعد بين الطرفين، حتى قتلت الولايات المتحدة المسؤول في حركة النجباء المدعو “أبو تقوى” وأحد مرافقيه في 4 يناير 2024، وثُم قتل القيادي في كتائب حزب الله وسام الساعدي في 7 فبراير، بالرغم من تعليق الحركة هجماتها ضد القوات الأمريكية منذ 31 يناير.
في الواقع، نظرت الحكومة العراقية إلى الضربات الأمريكية بأنها تجاوزاً للاتفاقيات الثنائية الرسمية، لا سيما اتفاقية الإطار الاستراتيجي عام 2021 والتي تؤكد فيها الولايات المتحدة على احترام سيادة العراق، ويُخالف هذا التجاوز الدور غير القتالي للقوات الأمريكية في العراق، منذ الإعلان عن انتهاء المهام القتالية للتحالف الدولي والانتقال إلى مهمة استشارية وتدريبية لمساعدة القوات العراقية في أواخر العام 2021.
وقد بدأت بغداد تعتقد بتضاعف كُلف الوجود الأمريكي، مع اشتداد الضغوط الداخلية والإيرانية لإخراج القوات الأمريكية، وخشية الحكومة من تفاقم الأزمة وتصعيد الاشتباك في الساحة العراقية.مواقف متباينة من فكرة الانسحاب الأمريكيإن المطالب العراقية بمغادرة القوات الأمريكية والأجنبية ليست بالجديدة، وأعيد إحياؤها لدى الرأي العام العراقي بعد الحرب في قطاع غزة، ودخول الفصائل المسلحة العراقية كطرف مساند في تلك الحرب، من خلال نشاطها العسكري في الساحتين العراقية والسورية. وقد أدركت بغداد منذ اللحظات الأولى خطورة التصعيد على أراضيها، وسعت الحكومة للوساطة بين الولايات المتحدة وإيران لتهدئة التوتر بين الدولتين ومنع انعكاسه على الساحة العراقية، كما تحركت لحث الفصائل المسلحة على وقف الهجمات التي تنفذها ضد القوات الأمريكية.
مع ذلك، جاء التصعيد مدفوعاً بحسابات مختلفة لدى أطراف “وحدة الساحات”، المدعومة من إيران، والتي تسعى لتوظيف الظروف المحيطة بالحرب في قطاع غزة، في إخراج القوات الأمريكية من المنطقة وتحديداً العراق وسوريا، من منطلق أن الدعم الأمريكي غير المشروط إلى إسرائيل، يوفر الظروف الموضوعية في نظرهم لتكثيف الضغوط العسكرية ضدها، بما في ذلك خلق بيئة محيطة بالوجود الأمريكي تحمل من المخاطر والتهديدات ما يفوق مكاسبها وأهدافها، وذلك ما ذكره الأمين العام لحزب الله حسن الله في 6 يناير 2024، بأن ” العراق أمام فرصة تاريخية للتخلص من قوات الاحتلال الأمريكي”.
ويتفق مع ذلك الهدف، العديد من القوى داخل العراق، والتي تتركز أساساً في القوى السياسية الشيعية، لا سيما الإطار التنسيقي، والتيار الصدري، الذي كان زعيمه مقتدى الصدر من أوائل المطالبين -بعد الحرب- بإغلاق السفارة الأمريكية وخروج قواتها من البلاد في أكتوبر 2023، إلا أن دعوة الصدر قد تكون بالنسبة لتياره سلاح ذو حدين، من جهة أن الخروج الأمريكي يُنهي مبررات خطاب “المقاومة” المستخدم لدى منافسيه، والمؤثر نسبياً بالنسبة لجمهورهم وقاعدتهم الشعبية، لكنه من الجهة الأخرى يُعزز من سرديتهم بشأن أن القوات الأمريكية غادرت العراق نتيجة للضغوط العسكرية للفصائل المسلحة على القوات الأمريكية.
مع ذلك؛ هناك انقسام في المواقف العراقية من قضية الوجود الأمريكي، حيث تخشى بعض القوى الكردية التي قدمت لها الولايات المتحدة الدعم لمكافحة تنظيم “داعش”، من أن يؤدي الانسحاب إلى استعادة التنظيم قوته، كما أن الانسحاب الأمريكي من العراق يضع أكراد سوريا في حالة من عدم اليقين حول مستقبل علاقاتهم مع واشنطن وغيرها من الفاعلين في المشهد السوري. إلى جانب أن هناك مخاوف لدى بعض المناطق السنية المحررة من “داعش”، من تزايد الهيمنة الإيرانية عليها.
في المحصلة؛ انسحاب أو لا انسحاب
نجح تصعيد إيران وحلفائها في وضع قضية انسحاب القوات الأجنبية والأمريكية على أجندة العلاقات الأمريكية العراقية، لكن مسألة الانسحاب من عدمها لا تزال موضع شك كبير، فمن جهة الحكومة العراقية التي تعتمد على دعم القوى الحليفة لإيران والشريكة في تحالف إدارة الدولة، فإنها تحتاج إلى ضمان تحييد المتشددين من بينهم ضد الوجود الأمريكي وعدم الانسياق وراء دعوات تعجيل انسحاب القوات الأمريكية، خاصة أنها تدرك الحاجة إلى الدور الأمريكي الأمني في سياق التدريب والدعم اللوجستي والاستخباراتي في الحرب ضد “داعش”، كما أشار لذلك رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني في مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال” في 15 يناير 2023.
ولذلك اتبعت سياسة مُوازنة تطالب من خلالها القوات الأمريكية بالانسحاب، لكنها في الوقت نفسه لم تتقدم بطلب رسمي إلى واشنطن بذلك، فهي تهدف إلى تهدئة الأصوات المتصاعدة لانسحاب القوات الأمريكية، ولكنها لا تُسلم للضغوط الإيرانية التي لا تُلبي المصالح الأمنية العراقية، ومن هنا جاء بيان وزارة الخارجية واضحاً في وصف عملية الانسحاب المتوقعة بأنها “خفض تدريجي مدروس”.
من جهة أخرى؛ ترفض الولايات المتحدة أي انسحاب مستعجل، حيث نفى البنتاغون من قبل أن هناك انسحاب وشيك للقوات الأمريكية من العراق. ففي حين أن التواجد الأمريكي في العراق قائم أساساً لمكافحة تنظيم “داعش”، إلا أن له أغراض أخرى تتعلق في السلوك الإيراني الإقليمي، وتمدد الفصائل المسلحة على طول الحدود العراقية-السورية وفي عُمق الدولتين، وهي مسؤولة بذلك أمام حلفائها ودول المنطقة، ومن غير الموضوعي أن تنحسب تحت الضغط دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف الإقليمية الأوسع التي تتطلب بقاء قواتها، خاصة وأن مفاوضات الانسحاب تأتي في ظل الحرب في قطاع غزة، والتي لا تزال تُنذر الإقليم بمزيد من التصعيد، وفي وقت تُمارس فيه القوات الأمريكية ضغوطاً مكثفة على الحوثيين في البحر الأحمر، وهي لا تحتاج إلى إظهار أي بوادر ضعف تجاه قدرتها على “الردع”.
وفي ضوء ذلك اختارت كل من العراق والولايات المتحدة إجراء المفاوضات عبر “اللجنة العسكرية العليا المشتركة”، ولذلك دلالات كثيرة من بينها:
1- أن الدولتين اختارتا لجنة مختصة لمناقشة مسألة الانسحاب، يكون أعضاؤها من الخبراء المتخصصين العسكريين والدفاعيين ويبحثون في ثلاث قضايا حاسمة ما قبل الانسحاب وهي: تقييم تهديدات تنظيم “داعش”، والبيئة الأمنية المحيطة، وقدرات الجيش العراقي. على العكس من اتفاقية الإطار الاستراتيجي عام 2008، والتي قادت للانسحاب الأمريكي عام 2011، فقد تمت بين المستويات السياسية.
2- تعتبر المفاوضات الجارية ذات أهمية بالغة في تأطير العلاقات الأمنية بين الدولتين ورسم حدودها المستقبلية، حيث انبثقت اللجنة من حوار التعاون الأمني المشترك بين الولايات المتحدة والعراق الذي عقد بواشنطن في 7 و8 أغسطس 2023، وجمع عدداً من القادة العسكريين في الدولتين من بينهم وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي ووزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن. ما يعني أن المفاوضات الثنائية لا تقتصر على وضع جدول زمني للانسحاب فحسب.
3- نظراً لأن القضايا التي تناقشها اللجنة ذات طبيعة أمنية، فإن المفاوضات ومجرياتها تُحاط بالسرية والكتمان، ولا يجري تسليط الضوء عليها أو نشرها للرأي العام، حيث عقدت اللجنة حتى اللحظة اجتماعين لم يُفصح للعامة والإعلام عن مضمونهما.
4- ميل الدولتين لتسيير علاقاتهما في لجان رسمية ومختصة يُشير إلى رغبة متبادلة في الحفاظ على مستوى متقدم من تلك العلاقات، فإلى جانب اللجنة العسكرية العليا، تنعقد بصفة دائمة لجنة التنسيق العليا المعنية بالتعاون الاقتصادي، بموجب اتفاق الإطار الاستراتيجي المبرم عام 2008.
وأخيراً، جاءت المفاوضات بين الدولتين على خلفية التصعيد الذي تشهده المنطقة والساحة العراقية، لكن سياق ومساره منعزل عن ذلك التصعيد، ويُشير اختيار الدولتين لتلك اللجنة، حاجة كليهما إلى قرار مدروس بالانسحاب وليس مدفوعاً بالضغوط، وبشكل لا يؤثر على البيئة الأمنية العراقية أو الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، ويحافظ في الوقت نفسه على العلاقات والمصالح المشتركة بين الدولتين، وذلك ما تريده حكومة رئيس الوزراء محمد السوداني الذي أكد أن المطلوب يتمثل في “الانتقال إلى علاقات ثنائية مع جميع دول التحالف”.
مع ذلك، هناك إدراك متبادل لدى الطرفان بأن الوضع ما بعد الحرب في قطاع غزة، أصبح محفوفاً بالمخاطر، ومعقد للغاية بالنسبة للحكومة العراقية والولايات المتحدة، ففي حين لم تشهد الساحة العراقية أي هجمات متبادلة منذ 7 فبراير 2023، نتيجة على ما يبدو لإتاحة المجال أمام الحكومة التوصل مع واشنطن لترتيبات الانسحاب، إلا أن أطر التصعيد ومقوماته لا تزال قائمة في المستقبل القريب، وأن أي محاولات احتواء التصعيد تترافق مع اختلاف كبير في الحسابات بين جميع الأطراف بشأن الموقف الراهن، سواء إيران أو القوى العراقية الحليفة لها أو الحكومة العراقية أو الولايات المتحدة.