الشرق اليوم- بعد سقوط جدار برلين عام 1989، وانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، ومعه المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو، ونهاية الصراع الأيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية، وإعلان نهاية الحرب الباردة، ساد اعتقاد بأن العالم دخل مرحلة جديدة من الأمن والسلام، يتحقق فيها التعاون المشترك بدلاً من الصراعات، ويتكرّس في الاستقرار الاستراتيجي من خلال تسوية الصراعات والأزمات العالمية على قاعدة العدالة والقوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة.
كان ذلك أمل شعوب العالم ببزوغ فجر جديد، ونظام دولي جديد متعدد الأقطاب بديلاً للنظام الدولي الثنائي السابق، لكن ما حصل هو عكس ذلك؛ إذ اعتقدت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة أن ما حصل كان انتصاراً نهائياً لها، وأنها تستطيع إدارة شؤون العالم وتحديد مساراته السياسية والاقتصادية والأمنية كما تريد، وبالتالي يمكن لها أن تفرض هيمنتها المطلقة.
مباشرة، وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي عمدت الولايات المتحدة إلى اختراع أعداء جُدد بعد الشيوعية، مثل الإرهاب و«الدول المارقة» و«الأنظمة الاستبدادية» و«أسلحة الدمار الشامل»، فشنّت الحرب على أفغانستان ثم العراق، وعلى صربيا وليبيا، وبدأت في فرض أنظمتها وقوانينها على العالم بدلاً من القوانين الدولية، من خلال فرض العقوبات، والحصار السياسي والاقتصادي والحروب التجارية، ودخل العالم بعد ذلك في دوامة أزمات وصراعات جديدة أدت إلى تقويض الاستقرار العالمي.
كان من نتيجة ذلك بدء مرحلة جديدة من سباق التسلح، وازدياد غير مسبوق في الميزانيات العسكرية لمعظم دول العالم، وارتفاع وتيرة الصراع، واندلاع الحروب المباشرة أو بالواسطة، خصوصاً بعدما أخلّت الولايات المتحدة بكل تعهداتها لروسيا بأن حلف الأطلسي لن يتمدد صوب تخومها الشرقية؛ لأن مبررات التوسع انتهت، وحالة العداء بين البلدين لم تعد موجودة، لكن ما جرى كان عكس ذلك؛ إذ بدأ التوسع التدريجي للحلف شرقاً منذ عام 1999، بدءاً ببولندا والمجر والتشيك، ثم بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا.. إلخ!
ورغم النفي الغربي بوجود تعهد غربي بعدم توسع الحلف إلا أن جاك ماتلوك آخر سفير أمريكي في الاتحاد السوفييتي يؤكد أن الغرب «قدّم التزاماً واضحاً» بعدم التوسع، وكتب ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس سوفييتي في مذكراته: «خلال مفاوضات توحيد ألمانيا، أعطى الغرب تأكيداً بعدم توسيع الناتو منطقة عملياته نحو الشرق».
كان هذا التوسع هو السبب الرئيسي لاندلاع الحرب الأوكرانية قبل عامين، ذلك أن روسيا اعتبرت توسع الناتو نحو تخومها الشرقية تهديداً لأمنها القومي، ولطالما حذرت القيادة الروسية الدول الغربية من مغبّة مثل هذا التوسع، خصوصاً بعدما عمدت الدول الغربية إلى التحريض على القيام بانقلاب في أوكرانيا والإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش عام 2014 من خلال ما يسمى «الثورة الملونة» أو «ثورة الميدان»، الأمر الذي اعتبرته روسيا تجاوزاً لخطوطها الحمراء، وتهديداً مباشراً لها، ما استدعى استعادة شبه جزيرة القرم، ومن ثم اندلاع الحرب في 24 فبراير/شباط 2022.
كان انخراط الدول الغربية من خلال حلف الناتو في الحرب الأوكرانية عبر الدعم العسكري واللوجستي والاستخباراتي محاولة غربية لمحاصرة روسيا وهزيمتها عسكرياً، والحؤول دون نهوضها مجدداً، والإبقاء على النظام الدولي الأحادي الذي تقوده الولايات المتحدة التي تخوض مواجهة أخرى في شرق آسيا ضد الصين من خلال الحرب التجارية والاقتصادية والتقنية والعقوبات، واستفزازها في تايوان وبحر الصين الجنوبي، وإقامة تحالفات عسكرية من حولها لمحاصرتها، ومحاولة إقصائها عن إفريقيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا، وتطويق مبادراتها التنموية العالمية مثل «الحزام والطريق».
إن العالم بدأ يعي بأن من يهدد أمنه واستقراره هو من يثير الأزمات والحروب والصراعات، ولا يقيم وزناً للقانون الدولي وحقوق الإنسان ولمبدأ التعايش والتعاون بين الدول، ويرى في القوة وسيلة وحيدة للهيمنة والسيطرة.
المصدر: الخليج