بقلم: فارس خشان – النهار العربي
الشرق اليوم- يغيب الجيش اللبناني كليًّا عن المشهد الجنوبي، حتى بدا وكأنّ دخوله إليه في عام 2006، في ضوء موافقة لبنان على القرار 1701 الذي أوقف الحرب التي اندلعت في 12 تموز (يوليو)، قد انتهى في الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، مع انضمام “حزب الله” إلى حرب “طوفان الأقصى”.
وبدأ هذا الغياب يثير أسئلة كثيرة، إذ يعتبره مؤيدو “حزب الله” دليلًا على وجوب “تمجيد السلاح”، فيما يجد فيه مناوئو هذا الحزب تأكيداً على محاولة إنهاء سيادة الدولة على أراضيها.
ولم يحضر الجيش اللبناني في يوميات الجنوب اللبناني منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) إلّا لماماً من خلال مشهديات بعضها أثار الغضب:
أوّلًا، تفكيك منصات صواريخ لا علاقة لـ”حزب الله” وحلفائه بها.
ثانيًا، استشهاد أحد جنوده في غارة إسرائيليّة اعتذر عنها الجيش الإسرائيلي، فيما تولّى “حزب الله” الانتقام منها، وفق بيان صادر عن “المقاومة الإسلامية في لبنان”.
ثالثًا، تواصل الجيش اللبناني مع اليونيفيل لإخلاء جثث مقاتلين سقطوا في أماكن تقع تحت سيطرة النيران الإسرائيليّة.
وما خلا ذلك، غاب الجيش اللبناني عن المشهد كليًّا، فهو يبدو غير معني لا بتهدئة الجبهة المفتوحة، ولا بتوضيح الاستهدافات التي تصيب لبنان حتى لو وصلت إلى جدرا والغازية والضاحية الجنوبية لبيروت، ولا يصدر أي بيانات بخصوص تحليق الطيران الإسرائيلي على امتداد الجغرافيا اللبنانية.
يحصل ذلك، على الرغم من أنّ “الأسباب الموجبة” التي جرى إعلانها لتمديد ولاية قائد الجيش العماد جوزاف عون ومن ثم لتعيين رئيس الأركان اللواء حسّان عودة بـ”طريقة استثنائية”، أي في غياب أيّ اقتراح من وزير الدفاع الوطني موريس سليم، تمحورت حول وجوب الحفاظ على استقرار المؤسسة العسكريّة في ضوء الوضع المأزوم على الجبهة اللبنانيّة – الإسرائيليّة.
ويمتنع جميع المعنيّين عن تقديم شروحات رسميّة لتبيان أسباب هذا التغييب التام للجيش اللبناني وتسليم الجبهة عسكريًّا وقياديًّا وسياسيًّا، الى “حزب الله”، إذ يختصر الأمين العام للحزب السيّد حسن نصر الله في شخصه كل الرئاسات والحكومة والمجلس النيابي وقيادة الجيش والمجلس العسكري، وهو عندما يذكر الجيش يركز على “ضعفه”، خصوصًا لجهة الحديث عن عدم تسليحه بما يعينه على مواجهة إسرائيل.
أوساط سياسيّة تحاول التخفيف من حدّة هذا المشهد الذي يُظهر الجيش اللبناني كما لو كان مجرّد إضافة نظريّة في المشهد السيادي اللبناني. ولهذا، فهي تتحدث عن “تحييد” الجيش وليس عن “تغييبه”، وتعتبر أنّ “التحييد” من شأنه أن يحفظ الجيش اللبناني للمهمة الأهم المقبلة، أي استلام الجنوب من الحدود إلى الحدود، بمجرّد إعادة الاعتبار إلى القرار 1701.
ولكنّ هذه الأوساط تتجاهل أنّ “تحييد” الجيش عن مهمة سيادية يعني إنهاء دوره الوطني الجوهري، وتحويله إلى ملحق بميليشيا، بطريقة تقرّب مشهدية النظام اللبناني إلى واقع النظام الإيراني الحالي، إذ يتقدّم “الحرس الثوري” في كل المهام على الجيش الإيراني.
كما تقفز هذه الأوساط فوق اعتبار أنّ المهمة المحفوظة للجيش في مرحلة لاحقة، سوف تكون وليدة ما يوافق عليه “حزب الله”، مع ما يعني ذلك من إعلاء يد هذا الحزب على يد الجيش الذي وحده يرمز إلى الوحدة الوطنية وإلى الشرعية الدستوريّة.
في الواقع، إنّ تغييب الجيش اللبناني عن المشهد الجنوبي مثله مثل تغييب الدولة اللبنانية، بكل سلطاتها عن القرار الجنوبي، فوحده “حزب الله” يُحدد إذا كان يمكن التفاوض مع إسرائيل وماهية هذا التفاوض وتاريخه.
مشكلة اللبنانيّين في ما يحصل تكمن في قدمها، إذ إنّ تغييب الجيش عن المشهد السيادي طالما أنتج الويلات، وأدى، شيئًا فشيئًا إلى تآكل الدولة حتى انهارت.
وبدأت آفات لبنان بالفتك به، يوم تمّ تسليم السيادة في الجنوب لتنظيمات غريبة متحالفة مع تنظيمات محليّة، تحت عنوان “تحرير القدس”. حاليًا، أعيدَ الشعار نفسه إلى الواجهة وتسليم صناعة القرار إلى الجمهوريّة الإسلامية في إيران التي سبق أن أنتجت في لبنان “المقاومة الإسلاميّة”.
في ما مضى، أحدث التهاون بالسيادة تفككًا كبيرًا في لبنان ودفع بالبلاد إلى أتون حرب طاحنة وقاتلة. حالياً، بدأ التفكك يأخذ مجراه، تحت جملة عناوين، وسط مخاوف من أن تسمح الظروف بأن تعود مصيبة عام 1975 إلى الوجود.